سجال في سقيفة الأطلال
عبد الرحمن شلقم
خطابان للرئيس التونسي الراحل الحبيب أبو رقيبة لا يمكن طيّهما من سجل الذاكرة السياسية العربية. الأول كان في مدينة أريحا بالضفة الغربية، عندما زارها سنة 1965. وقال في خطابه: «على العرب أن يفعّلوا قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 27 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1947». والخطاب الثاني الذي ألقاه في مسرح البالمريوم بالعاصمة التونسية في حضرة القائد الليبي الراحل العقيد معمر القذافي سنة 1972. وقال رداً على طرح القذافي لمشروع الوحدة بين البلدين: علينا أن يوحد كل واحد منا بلاده أولا.
بعد الخطاب الأول قامت القيامة الإعلامية العربية ضد أبو رقيبة، وصفته بالعمالة والتنازل عن فلسطين وخيانة الأمة العربية. أما خطاب البالمريوم في حضرة القذافي فقد قفز عليه الاثنان ووقعا اتفاقية جربة للوحدة الاندماجية بين ليبيا وتونس. كان الرئيس بورقيبة في خطابه الأول بأريحا يعبر عن عقيدة المدرسة التي أسسها هو وكان أول طلابها وأساتذتها. منهجها ومحور فكرها «خذ وطالب».
أما العنوان والقاعدة التي عبر عنها في خطابه الثاني «كن واقعياً واطلب المستحيل».
هل غطى تراب الزمن أرجام المسارات السياسية التي وضعها بورقيبة واهتدى بها؟ وهل قدمت مدارس الزمان ومعارك الأوطان رؤية سياسية عربية تقارع ما أنزلته النوازل فوق الكاهل العربي؟
بلا شك كان تطور المتغيرات الدولية كبيراً وشاملاً في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. لقد انهار الاتحاد السوفياتي وكتلته الشرقية، وتلاشى حلف وارسو الجسم العسكري الشيوعي المقابل للناتو. ورحل عصر الآيدولوجيا. قام الاتحاد الأوروبي، العملاق السياسي والاقتصادي على الضفة الأخرى من القارة المقابلة لنا، ضم كل دول دولها وهي الشريك الأول لنا في كل شيء، الماضي بما له وما عليه، الحاضر الاقتصادي الذي يمتص ما تجود به أرضنا علينا ويصدرون لنا ما تبدعه عقولهم وتصنعه سواعدهم. انهارت الأنظمة الشمولية الفاشية العسكرية في أميركا اللاتينية، وبرزت نمور اقتصادية شكلت نهضة نوعية في جنوب الكرة الأرضية. سرت حركة تنوير وطنية جديدة وديمقراطية عتيدة، وتراجعت موجة المد اليساري الثوري.
بروز الصين قوة اقتصادية ضاربة، تغزو ببضاعتها الرخيصة الدنيا. وتحركت في الدنيا بقوة ناعمة، شجعت مواطنيها على الرحيل إلى قارات العالم للاستثمار، قدمت مساعدات هائلة للدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا دون أهداف سياسية، بعيدا عن الوهم الآيديولوجي الماوي، مسحت فلسفة الرئيس دنغ سياو بينغ فلسفة ماو تسي تونغ، جملة واحدة قالها سياو بينغ: «لا يهم لون القط، المهم أن يأكل الفأر».
ترافق ذلك مع بروز ما عرف بالنمور الآسيوية التي احتلت مكانا مهماً في الاقتصاد العالمي.
تطورات شاملة، وتكتلات سياسية واقتصادية شكلت بديلاً ضخماً لخرائط ما بعد الحرب العالمية الثانية وزوال فحيح الحرب العالمية الباردة. خلقت عالماً جديداً تعملق بقوة الثورة التقنية الهائلة، وتطوير وسائل الإنتاج بصورة إعجازية مذهلة.
عصفت السنون على الدنيا في كل شيء. السياسة، الاقتصاد، الثقافة، التعليم، التقنية ووسائل المواصلات والاتصالات. غمرت العالم فلسفات وأفكار ومناهج غيرت نسق التفكير الإنساني. تشكلت تحالفات اقتصادية. وضعت القوة العسكرية أوزارها إلى حد كبير في التدافع الإنساني نحو تحقيق الأهداف والطموحات الوطنية.
ماذا فعلنا نحن؟
لم نقرأ حجم ما حدث في الدنيا، ولم نقيّم أثر ذلك وتأثيره علينا. لم نستورد ما يضيف لنا من هذا التكوين الجديد للدنيا أو نبدع نسقاً فكرياً جديداً يؤهلنا لعبور بوابة الكون الجديد. لم نحذف شيئاً مما تراكم في الرؤوس منذ قرون، ولم نغرس فيها نباتاً جديداً أبدعت فسائله مسيرة الزمان.
أعتقد أن قضية «الهوية العربية»، هي سقيفة الأطلال التي نطوف فيها حول ظلال تداعت جدرانها منذ قرون خلت، ظلال التصقت بالذاكرة وأصبحت موجِها فاعلاً للعقل. اقفرت المنازل لكن العقول لم تزل أواهل منها.
لك يا منازلُ قي القلوب منازلُ
أقفرت أنت وهن منك أواهلُ
كأن المتنبي ينقل على الهواء كيمياء عقولنا اليوم. هل نحن «شعوب عربية؟» أم «أمة عربية؟». وطن عربي؟ عالم عربي؟ أم مجرد «ناطقين باللغة العربية» مثل شعوب أميركا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية باستثناء البرازيل؟
البشر كائن ينمو مثل كل الكائنات الحية الأخرى، تراكم التجارب والخبرات والتعليم والتعلم يخلّق كيانات ومكونات تختلف عما سبقها وإن بقيت في نفس المكان. ذلك هو سر استمرار الحياة وتقدمها. لو قلت لمواطن أميركي سنة 1970 إن الولايات المتحدة الأميركية سيترأسها رجل أسود من أصل أفريقي والده مسلم. سينظر إليك مشفقاً ساخراً، يقول لك: هل جننت؟! وإذا قلت لآخر هناك احتمال أن تترشح امرأة لرئاسة أميركا قريباً وتكون لها الفرصة الكبيرة للفوز، فقد يصفعك غاضباً. نفس الشيء سيحدث إذا قلت حينئذ لمواطن بريطاني إن رجلاً مسلماً سيكون عمدة لندن عاصمة محراب عقيدة المحافظة.
العلاقة بين العرب ظلت معلقة فوق حبال التفكير الرغبوي الحالم، لم تخط خرائطها بمقاييس رسم متجددة وواقعية. رفعت شعارات الوحدة، وانتهت بالغزو والحروب. الجامعة العربية من أقدم أجسام التجمعات الإقليمية، لكنها لم تزل كما ولدت منذ عقود، لأن العقل الذي صنع ذلك الجسم بقي كما هو ولم يتطور.
لو نبدأ اليوم بسياسات «حسن الجوار». وبعد أن تترسخ ننتقل إلى تطوير التبادل التجاري. ستأتي بعد ذلك حالة جديدة من التفكير الثنائي، تلد حقائق تفعل فعلها على الأرض.
عقلية «الأطلال) هي التي جعلت المسافة بين غزة والضفة الغربية أبعد من المسافة بينهما وبين تل أبيب.
* سياسي وكاتب ليبي
صحيفة الشرق الأوسط