سبت السترات الصفراء
سالم العوكلي
بعد ظاهرة الربيع العربي أحيلت كل حشود تخرج إلى الشارع إلى تأثرها بهذه الظاهرة المختلفة ، مثلما حدث من نصب خيام في شارع المال الأمريكي وولستريت، وصولا إلى انتفاضة السترات الصفر في شارع الشانزيليزيه.
فأين يكمن سر المقارنة لهذه الظواهر بالربيع العربي ؟
يبدو أن خروج حشود تلقائيا غير مؤطرة سياسيا أو نقابيا، ودون قيادات ،هو ما يجعل مثل هذه الاحتجاجات ظاهرة مختلفة تحال إلى مزاج الربيع العربي ، غير أن الواقع يقول أن كل هذه الظواهر الثورية تدين إلى ثورة أخرى كونية هي ثورة المعلومات ،وما تمخض عنها من مواقع للتواصل، جعلت من إمكانية الحشد قائمة دون الحاجة إلى قيادات أو مؤسسات تقف خلفها.
حشود لا تنتمي إلى الدولة العميقة لكنها تمثل المجتمع الرقمي الجديد، حيث الحضارة الرقمية التي تبدأ الآن غيرت تماماً مفهوم التمثيل.
كما يحال تحديد أيام السبت، كموعد لحراك أسبوعي، إلى ما حدث في الربيع العربي الذي تحولت فيه أيام الجمعة إلى مواعيد متتالية للحشد بأكبر قدر، ولتصعيد المطالب بحيث كل جمعة أصبح لها اسم مرتبط بهذا المطلب الجديد.فهل يعود هذا الاختيار إلى أسباب اقتصادية باعتبار هذه الأيام عطلات ولا تؤثر في سير عجلة الاقتصاد؟ إذا كان هذا مستبعدا فيما يخص الثورات العربية ــ باعتبار أن المفهوم الديني لهذا اليوم كان هو الغالب ، والدليل أنها كانت غالبا تخرج من المساجد، وكان التكبير هتافها الغالب، والسيطرة فيها تتحول تدريجيا إلى التيارات الإسلامية المنظمة، إضافة إلى كون الاقتصاد في هذه الدول ليس من الديناميكة التي من الممكن أن يلتفت لها دعاة الحشد يوم العطلة ــ فهل يمكن القول أن ظاهرة الأسبات في انتفاضة باريس التي تُدار في قلب العلمانية المتطرفة على مستوى العالم، تذهب فعلا إلى السعي لعدم محاولة تعطيل مصالح الناس الفعلية باختيارها يوم العطلةـ وإن كانت عطّلت مبارايات دوري كرة القدم الذي يشكل شغفا حقيقيا لمعظم الفرنسيين .
البعض يذهب إلى أن جزءاً من أجندة اليمين الفرنسي ــ الذي بالتأكيد لم يكن وراء تحريك هذه الجموع وإن كان يحاول استثمارها لمشروعه ــ هي عودة الروح المسيحية إلى القارة المهددة بتورم إسلامي مخيف وفق أعداد الهجرة الإسلامية إلى قلب العلمانية، ووفق معدلات الخصوبة العالية لدى هؤلاء المهاجرين الذين يُذكر في عقود قرانهم حديث نبي الإسلام “تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة”.
يذكر في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، أن «سبت» تشتق من كلمة عبرانية تعني «راحة، توقف». وهي ترد للمرة الأولى في الكتاب المقدس ضمن وصايا أُعطيت لأمة اسرائيل القديمة. تقول الوصية الرابعة من الوصايا العشر: «اذكر يوم السبت لتقدِّسه. في ستة أيام تعمل وتصنع عملك كله، وأما اليوم السابع فهو سبت ليهوه الهك. لا تصنع فيه عملا ما».
لكن أصحاب السترات الصفراء يصنعون عملهم في هذا اليوم الذي عمل العديد من مفكري المسيحية على عدم حفظه والخروج من هذه المعطف العبراني بأن يكون اليوم التالي، الأحد، أو الأول هو يوم العبادة المقدس ويوم الراحة وإن ظل السبت يوم عطلة دون قداسة “لا يُطلب من المسيحيين ان يحفظوا يوم السبت. فهم تحت «شريعة المسيح» التي لا تتضمن وصية بحفظ السبت”.
هذه تصورات قد لا تمت بصلة لما يحدث وإن كانت تعبر عن مكبوت يميني يستمد قوته في الحشد من إعادة الروح المسيحية لأوروبا التي عليها أن تواجه التمدد الإسلامي، أو الفتح الإسلامي الجديد، الذي يزحف هذه المرة عبر قوارب مطاطية وتحت سترات برتقالية مانعة للغرق وليس عبر خيول وسيوف .
بينما السترات البرتقالية متراكمة على شواطئ أوروبا بما يوحي بتراكم قوارب طارق بن زياد المحروقة على تلك الشواطيء، فإن سترات صفراء (فرضتها البلدية على سائقي عربات التاكسي في حالة الطوارئ) تشرق في قلب باريس لتحرك الطبقة الوسطى ودافعي الضرائب ضد حكومة تمت خصخصتها من قِبل الأثرياء ، وغدت برامجها الوحيدة زيادة الضرائب على الطبقة الوسطى المنهكة من فترتين رئاسيتين باهتتين قبل ماكرون .
ربما هناك يكمن اختلاف جوهري بين ظاهرة الربيع العربي وانتفاضة باريس بكون دافعي الضرائب هم من يتحركون، ومفهوم دافعي الضرائب لم يتحقق بعد في مجتمعاتنا العربية ذات الاقتصاد الريعي الذي تملك مفاتيحه السلطة، بينما زاوية التشابه الأخرى هي محاولة انقضاض اليمين الفرنسي المتشدد على هذه الاحتجاجات مثلما انقض عليها اليمين الإسلامي المتشدد في الربيع العربي .
رغم عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” المكتوبة بخط وذهن عربي على أحد حوائط باريس ، إلا أن الفارق الآخر عن ثورات الربيع العربي كون هذه الاحتجاجات لا تطالب بإسقاط النظام ولكن بالدفاع عن النظام: النظام الجمهوري بكل قيمه التي تعتبر المواطن أعلى سلطة في الدولة، وإن تسللت أصوات تدعو إلى نهاية الجمهورية الخامسة التي استمرت نصف قرن.
يقول أحد متظاهري الضواحي: “بالأمس كتب أحدهم على سترته (الجمهورية السادسة).. شيء ما سيحدث لا نعرف ما هو”. وهذا الغموض في المآل رافق الربيع العربي الذي كان يرتجل مطالبه ويتصاعد بها من جمعة إلى جمعة. كنا لا نعرف أين ستقودنا ثورات الربيع العربي، لكن كنا نعرف، على الأقل، إلى أين لا تؤدي.
ما يبشر في كل هذا أن قوس فزح التمرد يكاد يكتمل بأطيافه اللونية كلها عبر هذه الحشود أو الثورات التي شهدها التاريخ البشري في هذا القرن والذي قبله، ومهما كانت عواقبه فإنه ينبئ بأن نزعة التمرد غريزة طبيعية لدى البشر وحتى دون أن يحسبوا النتائج أحيانا.
الثورة الحمراء في الصين ، الثورة البيضاء في بريطانيا، الثورة الخضراء في إيران، الثورة البرتقالية في أوكرانيا، الثورة الوردية في جورجيا، الزهرية في قيرغيزيا، القرمزية في التيبت، وثورة الزعفران في ميانمار، بينما ظلت ثورات الربيع العربي بلا لون، ولم تشفع لها تسميتها الربيع بأن تتلون ، وإن كان يطيب للبعض المتشائم أن يسميها ثورات سوداء ــ امتصت داخلها جميع الألوان ــ حين انبثقت من قلبها الرايات السود التي أرادت أن تعود بهذا الحراك الذي قادته الطبقة الوسطى وعبر أحدث ما وصل إليه العقل الإنساني، ثورة المعلومات ومواقع التواصل، إلى فترة ما قبل التاريخ ما قبل الحداثة ما قبل بزوغ أهم المصطلحات التي أنتجها القاموس السياسي وهي الديمقراطية وحق المواطنة.
من جانب آخر؛تجتاز الحدود، وتنتقل ثورة السترات الصفر إلى هولندا وبلجيكيا للأسباب نفسها وبالأسلوب التلقائي نفسه، وكأنها جميعا تضمر رغبة مكبوتة لإسقاط نظام عالمي ما، بدأت الرأسمالية المتوحشة تكشر فيها عن أنيابها عبر اتساع الهوة بين قلة مستفيدة وأغلبية عظمى تعيسة ترفه بالضرائب المفروضة عليها هذه القلة السعيدة، حيث يتحول الإنسان فيها إلى مجرد محفظة أو بطاقة ائتمان أو حساب مصرفي.