رهانات اللجنة العسكرية المشتركة.. قراءة في دلالات التحرك غرب البلاد
مسارات معقدة وخطوات حذرة تجمد فيها الإنجاز وفتر فيها أداء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، والتي تشكلت وفق سياسة المسارات، التي أقرها مؤتمر برلين حول ليبيا المنعقد في 19 يناير 2020 في إطار تصور يهدف للحفاظ على وقف إطلاق النار المُوقّع في جنيف في أكتوبر 2020، بالتزامن مع مسار سياسي واقتصادي لإنهاء الأزمة في البلاد.
لجنة اتخذت من مدينة سرت مقراً دائماً لها في إشارة للخصوصية التي تتمتع بها المنطقة التي تتوسط البلاد وتُعد أحد محاور التماس، ووقف إطلاق النار، لتبدأ عملها بأجندات يأتي على رأسها المحافظة على الهدوء الميداني، وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، وإعادة هيكلة القوات المسلحة تمهيداً لتوحيدها، بالإضافة لدعم المسار السياسي عبر توفير المناخات الإيجابية، وتعزيز حالة الثقة بين الأطراف الداخلية.
بدأت اللجنة مهامها الثقيلة باجتماعات مكثفة عقدتها داخل البلاد وخارجها، إلا أنها اصطدمت في كثير من الأحيان بالطبيعة الفنية، وغياب الإلزام أو قوة إنفاذ تصورها على الأرض، بالإضافة لمرجعية أعضائها، فاللجنة تم تشكيلها بإشراك خمسة عسكريين من طرفي النزاع لتعاني من التأثير الكبير والتوجيهات التي لم تكن علنية، إلا أنها كانت شديدة الوضوح في كل مرة تقترب فيها من الملفات الشائكة، لتعود إلى المربع الأول مدفوعة بالرغبة في المحافظة على مكسب وقف إطلاق النار والابتعاد عن خلق حالة من التوتر وزعزعة الثقة مع قواعدها الشعبية والأطراف التي سمتها.
تحدٍ حاولت فيه اللجنة المحافظة على الحياد، الذي يبدو غير منطقي بالمقارنة مع مهامها الموكلة لها، لتتراجع خطوة للخلف أمام أي إجراء يثير تململاً أو رفضاً، وهو ما ظهر جلياً عقب دعوة اللجنة إلى بيان تبعية بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية في العاصمة طرابلس، والتي أثارت موجة عاصفة من الانتقادات في حينها، دفعت بعض أعضاء اللجنة إلى إصدار بيانات شخصية يتبرؤون فيها من القرار، بالإضافة إلى التساؤلات التي صاحبت دعوة اللجنة للأمم المتحدة بالضغط على الأطراف السياسية للدفع بالمسار السياسي، لتُتهم بتجاوز الاختصاصات والانحياز لطرف سياسي مُعين.
ملفات عكست جذور الأزمة في ليبيا، فملف توحيد المؤسسة العسكرية وإن بدا ملفاً ذا طبيعة فنية إلا أنه شديد الارتباط بالمسار السياسي، ويُشكل أحد محددات الأزمة الليبية، حيث نأت اللجنة العسكرية بنفسها عن تقديم أي تصور يتعلق بالملف الشائك، كما التزمت الصمت في مواجهة التحركات العسكرية التي يجريها طرفا النزاع، وغابت الاستراتيجية والنجاعة في معالجة ملف خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا رغم الأجواء الإيجابية على الصعيد الإقليمي والدولي الداعمة لخروجهم، واتساع دائرة الضغط الأممي.
اجتماعات مكثفة عقدتها اللجنة في دول الجوار، كما زارت عواصم التأثير في الأزمة الليبية وعادت صفر اليدين بوعود دبلوماسية بالتعامل بإيجابية مع رغبة الليبيين في خروج القوات الأجنبية، رغم إعلانها عن خطة بجدول زمني محدد ينهي هذا الوجود، وهو ما لم يتحقق أمام حرص الفاعلين على الأرض في عدم خسارة تحالفاتهم الدولية، ورغبة الأطراف الدولية ذاتها في الحفاظ على توازنات عسكرية تحقق حالة من الاستقرار الهش الذي يُوفر الحد الأدنى من حماية المصالح وتعزيز النفوذ.
فشل عزز التساؤلات عن دور اللجنة التي يُحسب لها رصيد محدود من الإنجازات، لم يتجاوز فتح الطريق الساحلي الرابط بين الشرق والغرب، وعقد عدد من اللقاءات الدولية التي أتت في مناخ سياسي إيجابي، أثمرت عن خروج عدد محدود من المرتزقة في مبادرات دبلوماسية، مقابل تعزيز الوجود العسكري التركي والروسي، الذي ترصد تقارير دولية تنامي وجوده في البلاد التي تحولت لمنطلق ومرتكز يخدم خططاً توسعية لهذه الدول، تجاوز الحدود الليبية إلى مناطق الصراع والنفوذ في دول الساحل الأفريقي.
ولكن لماذا كثف أعضاء اللجنة العسكرية عن المنطقة الغربية تحركاتهم مؤخراً؟
لقاء موسع عقده أعضاء اللجنة عن المنطقة الغربية مع المجلس الرئاسي الثلاثاء، رسمياً فإن اللقاء جاء لبحث الأوضاع الأمنية والعسكرية في المنطقة الغربية، وسُبل تكاثف الجهود من أجل تنظيم عمل كل الوحدات والقطاعات العسكرية بطرابلس والمنطقة الغربية، ليجري ذات الفريق لقاءً مع المستشارة الأممية ستيفاني وليامز، الأربعاء، لبحث الحفاظ على الهدوء والأمن والاستقرار في أنحاء البلاد.
لقاءات تأتي في وقت ترتفع فيه حدة التوتر السياسي والتحشيد الميداني على الأرض في المنطقة الغربية والعاصمة طرابلس، على خلفية عزم رئيس الحكومة الليبية برئاسة باشاغا الحائزة ثقة البرلمان مؤخراً، ممارسة مهامها من طرابلس وسط رفض وتلويح صارم باستخدام القوة من طرف حكومة الدبيبة، التي تشبثت بموقفها الداعي لتسليم السلطة لحكومة منتخبة، مما يعني رفع فرضيات العودة للاحتدام المسلح الذي قد يعيد البلاد للمربع الأول وسط جمود في الملف السياسي المتأرجح بين مقترح البعثة الأممية المدعوم من الدول الخمس 2+3، وخارطة طريق مجلس النواب التي يسودها الغموض وغياب الآليات.
موقف متأزم دفع لتحرك اللجنة العسكرية التي يملك بعض عناصرها ثقلاً وتأثيراً على الأطراف الفاعلة ميدانياً، للإسهام في الحفاظ على الهدوء وإبعاد شبح الحرب الذي تغذيه تشكيلات مسلحة، تراهن على استمرار مكاسبها وتحالفاتها الحالية، إلا أن اللجنة التي تملك حضوراً إيجابياً في النقاشات الدولية بوصفها أحد مخرجات التوافق الدولي في برلين، لا تملك عملياً قوة إلزام غير تلك القوة الأدبية التي تطبع عملها الفني التوافقي، مما يعيد الحاجة مجدداً للدور الإقليمي الفاعل والضاغط على التشكيلات المسلحة المحلية لثنيها عن أي مغامرة غير محسوبة النتائج.
ثنائية عمل اللجنة بجناحيها الغربي والشرقي تثير في حد ذاتها التساؤل عن غياب موقف جِدي وخارطة طريق معلنة للجنة، تحسم من خلالها ازدواجية المؤسسة العسكرية وتشرع في خطوات عملية لإنهاء الانقسام، مدفوعة بالرغبة الدولية المعلنة لدفع البلاد نحو الاستقرار وإنهاء المراحل الانتقالية التي غذت أطراف الصراع الذين يعيدون إنتاج أنفسهم مع كل مبادرة سياسية.
تحديات كبيرة تواجه اللجنة العسكرية المشتركة التي يعد هاجسها الأكبر عودة الاقتتال المسلح في البلاد، وهو ما يعني ضمنياً فشلاً ذريعاً في عملها الذي يرتكز على التهدئة الميدانية، وهو ما يدفع لإعادة تقييم الحالة الليبية باختلاف خارطة التحالفات وتغير أطراف الاستقطاب، حيث إن أية مواجهة عسكرية محتملة قد يتحول فيها خصوم الأمس إلى حلفاء، وبالتبعية فقد يتحول حلفاء الأمس إلى خصوم، وهو ما ظهر جلياً في اللقاءات العسكرية التي جمعت مؤخراً الحداد بالناظوري وتلك التي ضمت قادة عسكريين وأمراء كتائب من الجانبين في منطقة الشويرف، التي تُعد إحدى نقاط التماس العسكري جنوباً، وهي لقاءات وإن باركتها اللجنة العسكرية إلا أنها لم تكن طرفاً فيها وخضعت لحسابات إعادة التموضع وتجديد التحالفات وهو ما تُوج بعد ذلك بتفاهمات سياسية أفضت لتشكيل الحكومة الليبية.
تغيير الخارطة العسكرية قد يدفع اللجنة العسكرية المشتركة إلى إعادة رسم استراتيجياتها وترتيب أولوياتها، خاصة أن التحالفات الميدانية والسياسية الأخيرة على الأرض تحوز الرضى التركي المصري، في ظل تقارب دبلوماسي لافت بين الدولتين اللتين كانتا لوقت قريب تشكلان طرفي نقيض وأقطاب توازي في الملف الليبي، فهل تنجح اللجنة في الحفاظ على التهدئة أم أن الأمر وصل حداً من التأزم لا تطفئه الاجتماعات واللقاءات المكثفة؟