رمضان نصر أبوراس لـ”218″: الإنسان في لوحاتي هو ذلك اللغز المحير
218| خلود الفلاح
فنان تشكيلي ليبي، يؤمن أن الفنان قادر على إحداث التغيير وتحويل أدوات القبح إلى أعمال إبداعية، فأنجز “مجسم ليبيا السلام”، و”جدارية اشراقة” عند مدخل مدينة صبراتة، ولكن هذيْن المنجزيْن تعرضا للمحو إبان تلك الحروب التي مرّت بها المدينة.
في هذا الحوار؛ تحدث التشكيلي رمضان أبوراس، عن خارطة الفن التشكيلي الليبي، ومساحة الحرية التي تمنحها اللوحة الفنية.
ـ كيف تتكوّن فلسفة المادة الخام التي يتكون منها العمل مقارنة مع العناصر الأخرى كاللون مثلاً؟
ـ فلسفة جمال العمل الفني تعتمد إلى حد كبير على جمال المادة الفنية ذاتها، فمثلا لفنون الله مادتها الخاصة وهي الكلمات، كما أن التحدث عن المادة الموسيقية؛ نقصد به النغمات الناتجة عن صوت إنسان أو آلة موسيقية، وهي نغمات جميلة في ذاتها، ويطيب الاستماع لها.
إن إرغام المعدن على أن يرتعش تحت دقة يد النحات بالة الحفر والعمل على إيجاد التقابل بين الفراغات والأسطح البارزة والغائرة والأجزاء المتساوية وبين تقابلات الضوء فيما بين العلو والهبوط يُحيلنا إلى سرٍ عجيبٍ هو وجود المادة الفنية والصانع الفنان.
وإن استخدام الألوان والأقمشة والأسطح بمختلف أنواعها وأدواتها وما تتميز به هذه المواد من سيولة وثبات القوام؛ فهي ليست جميلةً في حد ذاتها، بل لأنها تعطي للفنان إدراكات حسية وعقلية تكون مشوبة بالمتعة واللذة سواءً فرشها على لوحته بفرشاة أو حكّها حكًّا خفيفًا أو أخذ يُشكّلها بفرشاة التلوين أو يُلصقها بالسكين أو يُخلطها بالمعجون لغرض عمل مجموعة من الملامس والسطوح وفق رؤية إدراكية وحسية وغاية؛ لتوصيل فكرة منجزه الفني.
أضف إلى ذلك أن للمادة الفنية صورةً خاصةً تفرض نفسها على صورة العمل الفني كما أن الحجم كذلك يتغير تبعا للمادة التي تذهب أو تتشكل بها الصورة الفنية سواءً كانت هذه المادة رخاما أو برونزا أو خشب كما تختلف باختلاف طريقة تصويره سواء بالماء أو الزيت أو بطريقة نحته بالحفر أو طبعه على الحجر، كما أن نتيجة العمل على كل هذه الأسطح لا تُعبّر عن حالتها الطبيعية ما دامت تتوقف على الضوء الذي يوضح بروزها وفراغها.
ومن هنا؛ فإن فلسفة الفنان في اختيار مواده الفنية، والصفاء الذي يتصف به العمل الفني وبالذات شكله الخارجي يعتمد بالدرجة الكبيرة على اختيار المادة المستخدمة، وفلسفة الفنان عند اقتناء مواده؛ يجب ألا تعتمد على سهولة العمل بها أو لأنها أمرٌ واجبٌ، بل لأنها مواد يجب أن تعامل معاملة خاصة وإنها تعطي أثرًا فنيًا معينًا.
ـ تعتبر البشاعة والقبح إحدى السمات المميزة لتجربة الفن المعاصر. ما الذي تعنيه البشاعة بالنسبة لك؟
ـ هذا منطق في شكله المباشر مهمٌ جدًا ويحتاج منّا إلى تحديد مفهوم البشاعة والقبح والذي بدوره سيُحيلنا معرفيًا إلى المقصود بالردي أو الرداءة وهي جزء هام في بناء الفن المعاصر وليس فقط في التشكيل والفنون البصرية الأخرى بل نجد صناعته وإبداعه انعكس على مستويات أخرى مسرحية.
وفي السينما والفيديو، وإذا ما بعدنا عن المفهوم الشعبي للبشاعة والقبح واتجهنا عبر دراستنا لتاريخ الفن؛ لوجدنا هذا المعنى يكون أقرب التصاقا بحركة الدادية التي بدأت في أوربا بعد الحرب العالمية وبعد أن خلخلت الحرب أحلام المواطن الأوروبي.
شعوره عن العالم بثقة الإنسان عن نفسه كمخلص لنفسه بمناي عن الإله معبرة عن الرفض للرفض. لا منطق حيث اتجهت أعمالهم إلى الغرابة على مستوى الموضوعات (فسقية دوشامب ـ1917)، و(مقهى للتحطيم ـ مان راي 1913)، و(اغتيال الطائرة ـ ارنست 1920) (واستعراض الحب ـ بيكابيا 1917) والذين نادوا بمفهوم دادا محو الذاكرة، دادا محو المعمار، دادا محو الرسل، دادا محو المستقبل، ودادا الإيمان الكلي والمطلق بكل آلة وجد في لحظة عفوية بعد ذلك تم دحض كل هذه النظريات والأفكار وتشتت هذه المجموعة فيما بعد نحو تيارات ومدارس أخرى أتت فيما بعد.
وهنا؛ لا بد أن نقف عند هذا المفهوم الخاص بالبشاعة والجرم عندما نقف على تجربة الفنان بيكاسو وأمام لوحته العظيمة الجرينكا التي عبر فيها بكل قوة عما لحق بمدينته وقريته الجرينيكا في إسبانيا من ويلات القتل والدمار التي تعرضت لها وبالتالي كانت رسالة الفنان هي صوته المدوي المعبر عن الهلاك والدمار والقتل والتعذيب والموت والنزوح والتشرد كما عالج الفنان العظيم جويا نفس الموضوع في لوحات عظيمة عن حوادث الإعدام والقتل إبان الحروب الأهلية وهذا الأمر يمكن إسقاطه على جل ما حدث في البلاد العربية خلال هذه السنوات، وقد تكون أحد أسباب النهوض في المشهد الإبداعي بشكل عام من مسرح وسينما وفنون تشكيلية وأعمال نحتية وأدب وقصة وشعر وغيرها، ما تمر به الشعوب عبر تاريخها يختزل الكثير منه تاريخيًا في أعمال توثق لكل ما يحدث، وقد تكون في مرات كثيرة سببًا من أسباب النهوض بهذه الدول كما يخبرنا التاريخ الإنساني.
ـ جدارية إشراقه، كانت بمثابة تحدٍ ومواجهة للحرب. حدثني عن مراحل إعدادها؟
ـ هي مشروع بحث جمالي وفق رؤية فلسفية تقول، لم لا تكون الأماكن جميلة؟، لم لا يكون المحيط أكثر بهجة؟. ولوّن حياتك بألوان الفرح الدائم.
هي مشروع ثقافي بالدرجة الأولى تبنيناه في جمعية صبراتة للفنون التشكيلية والخط العربي صممته على الحاسوب ونفذته مع مجموعة فناني صبراتة وكان بمثابة رسالتنا الفنية والجمالية والإنسانية التي تقف في وجه القبح والحرب والاقتتال الذي كان يحدث في كل مكان وما ينتج عنه من تلوث وتشوّه بصري عم أغلب حوائط وجدران المدن والمدارس والشوارع الليبية في فترة من الفترات.
جدارية تنشد إثارة الجمال في وجه القبح والتشوه والعنف بشتى صوره بمختلف أشكاله وتبتغي الإبداع كغاية لتحلق في الفضاء. وفي براح اللون وبراعة التشكيل وضوء الحرف والكلمة والمعنى وبين حنايا اللون وموج البحر كان الترافق وفي لمّة أشبه بلمة العائلة الواحدة اجتمع التشكيليون في منجزهم البديع مستحضرين في ذاكرتهم هوية الوطن وهوية وخصوصية المكان والمدينة.. لنحمل في ذاتنا كل معانيه الجمالية والفلسفية، في كينونة نجدها حاضرةً باستمرار وتُخاطبنا بلغة الخصوصية الحضارية وبلغة التميز والتفرد، ولنؤكد للعالم أن الإبداع عمومًا والإبداع التشكيلي خصوصًا كنسق تشكيلي سليم البنية والروح، منتجٌ منخرطٌ عضويًا في حياة الناس.
حيث تمت الدراسة الميدانية للمكان والرفع المساحي الميداني للجدار الذي يصل طوله إلى مائة وثلاثة أمتار ومتوسط ارتفاع مترين وربع المتر ليشكل أطول جدارية في دول شمال إفريقيا بالكامل حسب بحثنا في (الجو جل) تم تجهيز الجدار أولا ثم التصميمات بما يتناسب مع مسطح الجدار وفق خارطة تخطيطية أولاً وطباعة الألوان عليها فيما بعد.
رحلة تخطيط الجدارية على الحائط وفق التصميم المتماثل والمعد للجدار متشكلا من مفردات تشكيلية تمثلت في (ورد، وإزهار، واسماك، وفراشات، وزخارف، وفسيفساء، ومنمنمات،
آيات قرآنية، حروفيات وخطوط عربية، ومفردات شعرية، والعمارة العربية والإسلامية. كتابات شعرية، وقوارب شراعية، ومساحات وأشكال هندسية. ورموز من الحضارات والمدن القديمة، وإيحاءات لأمواج، وألوان البحر والسماء، ومشغولات السجاد والكليم والمرقوم، والمقتنيات الشعبية والصناعات التقليدية، وأبواب، ونوافذ.
لتوضع كل هذه المفردات، بشكل متناغم، مع التصميم العام للجدارية. مع ترك مساحات حرة للفنانين لوضع لمساتهم الخاصة عليها تمثّلت في عدد من اللوحات عبر فيها كل فنان بأسلوبه الخاص لوحات تراثية.
ـ هل نستطيع الحديث اليوم عن فنٍّ ليبيٍّ جديدٍ له سماتٌ محددةٌ؛ أم نقول تجارب فنية فقط؟
ـ هنا، أحييك وأشكرك على طرح هذا السؤال المحير لدى الكثيرين خاصة بعد هذه الفترة الطويلة ولأكثر من مئة عام. وعند الإجابة على هذا السؤال سأقف على نقطتيْن مهمّتيْن: الأولى حول فن تشكيلي ليبي له خصائص مميزة راجيا الحديث عن كلمة جديد لما تحمله من أبعاد عديدة.
وبالعودة إلى النقطة الأولى؛ فإن المتابع للمشهد والخطاب التشكيلي الليبي سيجده يمتاز بشيء من الخصوصية المحلية تمثلت في إنتاج عديد اللوحات ذات البيئة المحلية متمثلة في مشاهد مختلفة من البيئة الساحلية والصحراوية والأرياف وأزقة المدن القديمة تناوب على أدائه الكثير والعديد من الأساليب والمواد الفنية، كما تناول العديد من الفنانين في لوحاتهم وأعمالهم الفنية الجوانب الاجتماعية والعادات والتقاليد الليبية كالأفراح والأعراس والاحتفالات الدينية والسياسية وتم التوظيف الفني للعديد من الحرف والصناعات التقليدية في لوحات بعض الفنانين الذين استخدموا أسلوب الرسم والتصوير الزيتي والمائي بشكل واقعي أو كلاسيكي كما يحب أن يسميه البعض.
بينما اشتغل العديد من الفنانين بأساليب التجريد والتحديث في معالجتهم باستخدام أكثر من أسلوب للمعالجة، ونرصد كذلك أهمية وجود عنصر المعمار المحلي الجميل للشوارع والأزقة ومشاهد عديدة للمدن القديمة كغدامس وغات ومرزق وهون وطرابلس وبنغازي ودرنة وزليطن والزاوية وصبراتة والخمس ومشاهد طبيعية لروابي وهضاب ترهونة والجبل الأخضر وجبل نفوسه.
ويتأكد هذا البعد المحلي لدى العديد من الفنانين الذين استطاعوا عبر رؤيتهم وثقافتهم الواسعة توظيف أعمال المتحف الطبيعي الصخري الليبي المتفرد للأعمال والرسومات الصخرية لجبال اكاكوس وما تمثّله من إرث بصري عظيم شكل ذهنية ونظرة فنية واعية بموروثنا الثقافي والحضاري الذي تمثل فيما تركته حضارة الجرمنت وآثار قرزة وما خلفته الحضارات الفينيقية والرومانية والعربية والإسلامية من قيم فنية وروحية وإنسانية؛ عمّقت لدى الفنان الاعتزاز بهويته المحلية، هذا بشكل عام، دون المرور بذكر العديد من الأسماء المعروفة.
وهذا الأمر أراه منطبقًا على جيل من الرواد والمعاصرين والشباب كذلك الأمر الذي يكسب هذا الخطاب لغته المحلية الخاصة التي يغرف من خلالها الفنان الواعي من خبيئته الثقافية دون تشوه أو تأثر بما يسود المشهد التشكيلي العربي في بعض الدول التي بقت تراوح ما بين الحديث والمعاصر في أعمال لم تكن إلا نسخ مشوه لتجارب الآخر الذي استطاع توظيف ثقافته النقدية للارتقاء بأعماله الفنية وأسّس لها نظريات نقدية لا تتناسب ولا تصلح لزماننا ومكاننا الخاص وفق موروثنا الحضاري والإسلامي الذي أبهر العالم وترك أثره في غرناطة والأندلس ودمشق وبغداد وفأس ومراكش والقيروان والمهدية، وقبلها أكاكوس وجرمه وسلقطة.
وبالعودة إلى عبارة فنٍّ ليبيٍّ جديدٍ؛ فليس هناك في العالم بأسره اليوم ما يسمى فنًا جديدًا لأن كل ما يخطر على البال قد تم عمله، ولا تتخيلين ذلك الكم الهائل من التجارب الفنية التي استطاعت توظيف كل المواد والتقنيات السمعية والبصرية والحركية واللونية وحتى الصناعية في الوصول إلى طرق مختلفة للتعبير عن الهمّ والكمّ الإنساني، وعن الرؤى والأفكار الإبداعية في السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، وبالتالي يصعب التحديد أو التحليل الدقيق للوصول لمعنى كلمة فنٍّ ليبيٍّ جديدٍ.
ومع ذلك؛ لا ننكر أنه وبعد اتساع القاعدة الأفقية بشكل كبير جدًا خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة؛ أصبحت هناك العديد من الأسماء التي استطاعت أن تشق طريقها بثبات ونجاح من جيل خريجي أقسام الفنون والذين يمارسون فعل الرسم وينتجون أعمالاً ويشاركون في معارض ومهرجانات داخلية وخارجية أكدت حضورها الدولي والعالمي.
وهنا لا أريد ذكر الأسماء خوفًا من الوقوع في الحرج، لكن المتابع يستطيع ملاحظة ذلك بتتبع خارطة المعارض التشكيلية من الستينات إلى وقتنا الحاضر، فقط من باب المرور باتساع القاعدة الأفقية، لا الحصر.
وتقام في طرابلس ومصراتة وبنغازي وصبراتة عديد المعارض بمشاركة عشرات الأسماء ويضاف لكل هذا الكم أسماء الرواد وجيل الستينات والسبعينات بكامل ربوع الوطن وبالتالي سنخلص بإن هناك فن أو مشهد تشكيلي ليبي مهم ذي خصوصية أو هوية محلية استطاع أن يثبت وجوده ويحقق ذاته عبر عدة أجيال أثبتت حضورها المحلي والدولي بشكل مميز نفخر به ونؤكد على أهمية دعمه وتشجيعه، وهو رافدٌ وعاملٌ مهمٌ في تنمية المجتمعات والارتقاء بذائقتها الجمالية.
ـ إلى أي مدى يشغلك الإنسان في لوحاتك؟
ـ الإنسان بالنسبة لي هو الروح واللغز المحير، هو ذلك الكم الهائل من الانفعالات والرؤى والأحاسيس المختلفة، وهو الكم الهائل من التجارب والممارسات الإنسانية، هو الأثر العين والأثر الباقي، هو تلك الخطوط والعلاقات الجميلة أثناء حركات الفرح والرقص والعمل والجري والحصاد والجمع والالتقاط هو حالات البيع والشراء والبناء والعمل هو الأغاني والموسيقى هو نتاج الجمال في أعراسنا وأفراحنا وعلاقاتنا الاجتماعية المختلفة هو التنوع الذكوري السامق والأنثوي الموسيقي البديع، هو الإحساس بالخشونة والنعومة، هو ذاكرة محتشدة برصيد من اللعب على ضوء القمر في ذكريات الطفولة هو العروس الجميلة بشعرها وبعطرها الفواح، بزي عرسها الجميل، هو كل اللعب وفق طقوس ونواميس الفرح والاحتفال والحياة، هو المعاش الحالي الذي ينبض أملاً وفرحًا حينًا، ويعيش قسوةً وألمًا وفظاعةً في أحيان أخرى، ومن هنا يملك قيمته الخاصة.
ـ ما الذي حلّ بمجسم ليبيا السلام؟
ـ مجسم السلام كان صفحةً أخرى لمشروع تجميل الأماكن الذي نسعى إلى تحقيقه ولا زلنا نعمل على تنفيذه بين كل فترة وأخرى وهو توأم لجدارية اشراقة يحملان رسالة الأمل والسلام والجمال لكل إنسان. تقف في مواجهة القبح والرداءة، حمل شعار ليبيا السلام في وقت اشتعال الحروب في أكثر من مكان وكان صوت الفنان الذي يعلن عن ميلاد حياة جديدة من الأمل والأمن نحلم بها جميعًا، لكن المؤسف في الأمر أن هذيْن المنجزيْن الجميليْن قد تعرضا للمحو إبان تلك الحروب التي مرت بها مدينة صبراتة، أزيلت جدارية إشراقة بحجة صيانة المدرسة وتحطّم المجسم بأحد قذائف الحرب، ليبقيا رصيدًا ثقافيًا ومعرفيًا في ذاكرتنا الجمالية وفي ذاكرة المدينة، ويبقى الألم يعتصرنا ويمسنا الشوق الدائم ويحثّنا على بذل مزيد من الجهد والعمل لإنجاز العديد من الأعمال، وتبقى حقيقة أخرى وهي أنه لابد من رفع سقف الوعي لدى المسؤول الليبي بأهمية الثقافة ودور الفنون في تنمية المجتمعات والارتقاء بها.
ـ لوحاتك مزدحمة بالخطوط والألوان والقصص مختلفة. ماذا تمنحك اللوحة التجريدية؟
ـ اللوحة التجريدية تمنحني مساحاتٍ كبيرةً من الحرية ومن التفكير قبل عمل أي شيء وعند التخطيط للعمل وفي الاشتغال على الفكرة أثناء تركيب وترتيب العناصر وتكوين العلاقات التي يبني عليها الفنان قواعد الانطلاق لتنفيذ اللوحة الفنية؛ فمجال الحرية الواسع يجعلك تسرح بخيالك في عمل العديد من العلاقات الخطية المتزاحمة والمتراكمة والمتداخلة والمحتشدة بعناصر لمفردات تشكيلية مختلفة تتناوب في حضورها المكاني في مساحاتٍ عدة من اللوحة، وفي حضورها الزماني عبر كل وقت.
تنفيذ اللوحة بحضور قصص وحكا يا لملاحم وبطولات ونوبات الفرح والاحتفال ومحتفية بجمال الأبواب والنوافذ والأقواس والزخارف. تمنحك حرية رسم كل ذلك؛ الحضور المتخّيل في ذاكرتك الجمالية في شيء يشبه بانوراما عامة لمشاهد وطقوس الحياة عبر المسيرة الإنسانية للفنان بتسجيل ذلك الكمّ من الأفكار المسلسلة في وحدة متناغمة تسمى اللوحة وبالتالي لاحدود لدي في الرسم والتخطيط والتلوين. كل الفضاء والزمن مطلق لدي اعمل به وأسافر إليه كيفما أريد، وحيثما أشاء؛ بوضع لمسة لون أو ترنيمة لخط حالة أشبه بمن يستمع لقطعة موسيقية ينقطع اتصاله بها لحظة اكتمال الجملة الموسيقية، لا شيء غير ممارسة الفرح والاحتفال عند تلوين كل عنصر بها.
ـ المدن القديمة تشغل حيزًا من لوحاتك. ما تأثير الأماكن على فنّك؟
ـ للأماكن سحرها الخاص ولعل السبب يكمن في تلكم العلاقة التي ولدت منذ ساعة هبوط المولود على الأرض وبدايته بالصراخ والذي يعلن فيه عن وجوده أو انه هنا ولعلها العلاقة الأخرى الذي خلق من الإنسان وارتباطه بالطين وعودته إلى أمه الأرض لتحضنه وتنقله إلى العالم الأخر، وبالتالي فإن وجود هذه العلاقة الدائمة التكاملية بين الإنسان والمكان تعزز أهمية الاحتفاء به، ومن هناء جاءت فكرة توظيف العلاقات المكانية المتمثلة في إيحاءات ورموز الأبواب والأقواس والنوافذ لهذه المدن مدمجة أو تعج بعلاقاتها الحركية لعناصر الرجال والنساء والأطفال في مشاهد الفرح والاحتفالات الاجتماعية التي تحدث في عديد المدن مثل غدامس، ودرج، وغات، وطرابلس، وبنغازي، ودرنة، وهون، وجالو، واوجلة وبقية مدن الوسط والواحات الليبية، التي لا زالت تمثل منبع الثقافة الليبية الفنية الأصيلة.
وقد كانت زيارتي لغدامس والمكوث بها لأيام عدة والمرور على قصر كاباو أو نالوت والمرور بدرج وقصر تفلفت أو قصر الحاج ومشاهد القلعة ويفرن أو الرياينة أو مشهد مدخل بني وليد عبر وادي سوف الجين ومشاهد هضاب ترهونة ومسلاته والمرقب؛ كلها تأسر العين وتمدّك بطاقاتٍ إبداعيةً خلاقةً كانت مصدر إلهام للكثير من لوحاتي.