اخترنا لككتَـــــاب الموقع

“رسالة سامية من ضنا برعاص”

218TV| مقال خاص

أنيس فوزي

مع الفواجع، فقد الليبيون شيئًا من الصبر، وصارت لهم ردات فعل شرسة وعنيفة، ويبدو أن التسامح صار جُبنًا والعفو لم تعد له مقدرة ولا مكانة في نفوسنا.

لكن هذا أمر نسبيّ للغاية، ففي كل خطب من خطوب الحياة توجد مآثر، ومع كل كارثة هدّامة هناك خيط شمس رفيع يتسلل من نوافذ مكسورة، يعطي لنا أملاً إذا لم يكن قيمةً في حياتنا.

شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، تم قتلهُ إثر مشكلة –لا يُهم ما هي- فهي بكل الأحوال مشكلة بين مراهقين صغار، لكنها انتهت بالقتل. والقاتل ليس مجرمًا وإنما شاب متهوّر كان ضحيّة وجود الأسلحة، وتردد على مسامعه طوال سبعة سنوات خطاب الكراهية، ولوّثت عيونه مشاهد الدم. ولم يختلف مصيره عن مصير المقتول قيد أنملة.

في مثل هذه المواقف، تعوّدنا أن الثأر أربعين عامًا إذا لم يكن أكثر هو صفة من صفاتنا، وأن لحظة واحدة متهورة من شخص واحد قد تجرّ أهله جميعا وتقتلهم وتنفيهم وتجعلهم سيرة على كل لسان لفترات طويلة، بعضها لا يُنسى، وبعضها رحل بها أصحابها بعيدا بلا رجعة.

لكن رجُلاً ليبيّا أصيلاً وهو “علي السنوسي بوحنتيشة البرعصي” والد الضحية والقلب المقهور والكبد المأكول، قرّر مثل الكبار أن يقول كلمة مختلفة، هزّت كل من حوله، واستغربها حتى رجال القانون ورجال الحكمة، ليسطّر أسمى آيات العفو.. وهو غير المُلام على أيّ تصرف وفي بلد لا يحكمها سوى العرف في الوقت الراهن.

فقد قرر أن الجاني وحده هو المسؤول عن الجريمة، وأن أهله لا ذنب لهم، وأوقف سنّة “الترحيل والإجلاء” المتعارف عليها منذ قديم الزمان، خوفًا على عائلات فيها الأطفال والعجائز والنساء والرجال غير المذنبين، الذين من الممكن ان يموتوا بردا في هذا الجو القارس، أو يموتوا جوعا في وقت حتى الأغنياء لا يملكون مالهم ولا قادرين على العيش بسهولة. موقف نبيل لا يمكن له أن يمرّ مرور الكرام علينا، فهو يعبّر عن صوت حكيم داخل جماهير غاضبة ومتّقدة وعمياء. صوت يفكّر في الجاني مثلما يفكّر في إبنه، ويعرف حرقة أهله عليه مثل حرقته على ولده. رجل يفكّر قبل أن يقرّر، وما أحوجنا إلى مثل هؤلاء.

سمعنا عن مدينة كاملة تم تهجيرها بقلبٍ ميّت من أجل أخطاء أشخاص لا يمثّلون سوى أنفسهم. وسمعنا عن عائلات تم تهجيرها لأنها قتلت شخصًا تعدّى على بيوتها، وسمعنا ورأينا الكثير من القصص التي تضرب تعايشنا في مقتل. لكننا نسمع اليوم أيضًا قصة مختلفة وبرّاقة، قصة يجب أن تُحكى وأن تُدرّس في مناهج أطفالنا. قصّة يجب أن نعرضها في كل فنوننا كما فعلنا مع قصص أخرى كرّست لدينا مفاهيم القتل والثأر والعمى.

فلتهنأ هذه البلاد بك يا عمر السنوسي، ولتهنأ قبيلة البراعصة بموقفها الداعم للخير والمؤكّد على العفو في ظروف ظننا أنها لن تقودنا سوى للمزيد من الهلاك، ما جعلنا نشعر أن الأمل مازال يحوم حولنا، وأن السلام ممكن، وأن هذه البلاد ستعود كما كانت، بها حكماء ووجهاء مداسهم من ذهب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى