ذكريات الأضحى والشعر ونواكشوط .
سالم العوكلي
العام 2006 شاركتُ في المهرجان الدولي للشعر الذي أقيم في أواخر ديسمبر بالعاصمة الموريتانية، نواكشوط، تحت شعار “من أجل تواصل بين الثقافات” ، والذي افتتحته وزيرة الثقافة والشباب بموريتانيا، آنذاك، السيدة مهلة أحمد، والتي قالت ضمن كلمتها أن لقاء نواكشوط الدولي للشعر “يعتبر خطوة جديدة تهدف إلى إخراج الشعر الموريتاني من عصر الانحطاط الذي يتردى فيه والنهوض به إلى مرتبة جديدة تليق بالشعر والشعراء في بلد المليون شاعر”.
شارك في المهرجان الذي أقيم لأمسياته سرادق كبير كان مكتظا برواد الشعر من الجنسين حتى ساعات الليل الأخيرة، أكثر من خمسين شاعرا من 30 دولة وتخلله عدة ندوات صباحية في قضايا الشعر المختلفة.
ثاني أيام المهرجان وصل الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد ليجد في استقباله في المطار المئات من البعثيين الموريتانيين، وتحول المهرجان في كثير من أوقاته لحدث سياسي عبرت عنه قصائده في مديح صدام حسين الذي كان وقتها في السجن محكوما بالإعدام، ورغم أن مديح الوهم يكتسب طعم المرثية، لكن ما استفزني في إحدى الندوات أنه ألقى قصيدة في مديح صدام وختمها بهجاء مقذع للشعر الحديث، فانفعلت وطلبت كلمة ، قلت ضمنها: “سافترض أن ما قاله الشاعر الكبير عبد الواحد عبد الرازق عن القصيدة النثرية صحيحا، كونها لا تمت للشعر بصلة ومرتبطة بالاستلاب وبمخابرات الدنيا وبالمؤامرة على وجدان الأمة ..إلخ، لكن ستظل فضيلة قصيدة النثر كونها لا تمدح الطغاة أو بالأحرى غير صالحة لمديح الطغاة، فالأمر متعلق بالجوهر الأخلاقي للفنون وليس بمجرد الشكل لأن الشاعر الذي يمدح مستبدا يسيء لضحاياه ولما تركه من أمهات ثكالى وأطفال أيتام، بل سأذهب أكثر من ذلك في الحكم عن أخلاقية شعر المديح ، وأقول أني اعتبر مديح رجل لأي رجل آخر، مهما كان، نوعا من الدعارة المعلنة” . مع نهاية المداخلة صعد المنصةَ الشاعر العراقي، علي الشلاه، المقيم في سويسرا وأخذني بالأحضان، وعندها وقف الشاعر عبد الرازق منفعلا وخرج خلفه حشد من مريديه ، الذين بدءوا ينظرون إلى شزرا طيلة الأيام الباقية، لكن في حوار مع بعض الموريتانيين الذين احتجوا بتهذيب على مداخلتي ، قلت لهم ما استفزني أن يمدح شاعرٌ طاغيةً ويهجو الشعر الذي لا حول له ولا قوة ، ولكن أرى أن موريتانيا مقبلة على تجربة ديمقراطية يرفع العرب لها عيونهم فلا تفسدوها بهذا التراث العربي القمعي الممثل في دكتاتورية البعث الذي عليه أن يذهب لمزبلة التاريخ.
في النهاية أعدم صدام؛ الذي ظل يستنجد آخر أيامه بالنشامة، بعد أيام قليلة من نهاية المهرجان، ودخلت العراق نفقا مازالت تراود الضوء البعيد في آخره، وانتكست تجربة موريتانيا الديمقراطية، والحكم العسكري الذي خرج من باب الدستور عاد من نافذة الفساد الضارب أطنابه في أركان الدولة .
كانت هذه المرة الوحيدة التي تنتدبني فيها الأمانة العامة للجنة الشعبية للثقافة في مشاركة خارج ليبيا، حيث أخبرني صديقي بالأمانة الذي اقترح علي المشاركة وهو يضحك، أن لا أحد يرغب في الذهاب إلى موريتانيا، لكني كنت بشوق لرؤية “التجربة الموريتانية” عن كثب بعد أن صدر فيها دستور اعتبره الكثيرون أفضل دستور صيغ باللغة العربية، لكني وجدت أنها لا تختلف عن “التجربة الدنماركية” في فلم عادل إمام .
بعد مشاركتي في مهرجان نواكشوط انتقلت إلى مراكش لإقامة ثلاث أمسيات شعرية كان قد نسقها أصدقائي الشعراء: نورالدين بازين ورشيد منسوم والقاص محمد شويكة، انتقلت بعدها إلى الدار البيضاء قبل عيد الأضحى بيوم ، الذي كان يوافق 30 ديسمبر 2006 ، ذلك العيد الشهير الذي وافق احتفالات رأس السنة وشهد إعدام صدام حسين في رسالة مازالت مرسلاتها تعمل حتى الآن .. حجزت في فندق عتيق بشارع محمد الخامس كان يخيم عليه صمت رهيب لاكتشف أني أنا الساكن الوحيد في الفندق مع سائحة هرمة في الطابق الأعلى . الساعة السادسة صباحا أيقظتني أصوات عالية لارتطام أشياء بأرضية الشارع ، نهضت لأسأل موظف الاستقبال عما يحدث من ضوضاء : فقال لي بلهجة مغربية فهمت منها أن هذا لزوم العيد.. وحين خرجت للشارع لاستطلع كان الشباب من فوق سطوح العمارات يلقون بقايا الأخشاب وقطع الحديد في الشارع.
لسنين طويلة، ومن أجل إنقاذ الثروة الحيوانية من الانقراض، منع الملك السابق، الحسن الثاني، الناس من تقديم الأضاحي واستلم هو مهمة تقديم أضحية واحدة بالنيابة عن الأمة، وحين تسلم ابنه محمد السادس مقاليد الملك عاد فسمح للناس بتقديم أضاحيهم، لذلك بدأ الكرنفال يخرج عن طوره وكأنه تعويض عن سنين سابقة لم يخرج فيها دخان الشواء سوى من القصر .
بعد الإفطار خرجت للتسكع في شوارع المدينة التي بدت هامدة ولا شيء يتحرك فيها سوى ألسنة دخان تتصاعد في كل مكان، ورائحة الشعر والصوف المحروق التي غزت كل جزء فيها، وعلى ناصية الشوارع كان الشباب يضعون أحجارا تحت أسِرّة حديدية قديمة أُشعِلت أسفلها نيران من بقايا الأخشاب ، وفوق شبك الأَسرّة كانت رؤوس الأكباش وأرجلها تشوى في كل شارع تقريبا من شوارع الدار البيضاء .. فكرت في مصير هذه الفوضى الشاملة وهذه الأرصفة الأنيقة في أحد أجمل شوارع المدينة الذي تحول إلى ممر من بقايا الدهون والفحم والرماد والأخشاب المحروقة والأحجار السوداء، وهكذا كان حال كل الشوارع تقريبا.
اتصل بي الصديق مصطفى بازين، شقيق الشاعر نور الدين، لأنه أصر على دعوتي للاحتفال بالعيد مع أسرته في مدينة المحمدية خارج الدار البيضاء .
حين عدت من المحمدية آخر الليل كان جيش من عمال النظافة ومن سيارات الإطفاء يغسلون شوارع الدار البيضاء بالصابون ، وفي صباح اليوم التالي عادت المدينة كما كانت وكأن شيئا لم يحدث .
قبل 11 عاما واكب الأضحى إعدام الطاغية صدام حسين الذي قدمته أمريكيا أضحية بالنيابة عن الأمة ، وفلكيا يوافق عيد الأضحى هذا العام 1 سبتمبر، ذكرى مولد الطغيان في ليبيا الناشئة الذي كان أضحيته وطن ذبح على غير قبلة ومازال دمه ينزف.
يقول لسان حال من أحوالهم وصلت للحضيض: لو لم يُفدَ إسماعيل عليه السلام بذبح عظيم، ولو لم يهبط من السماء كبش، لكان إبراهيم عليه السلام ذبح ابنه إسماعيل تنفيذا لأمر ربه . الآن لا ثمة كِباش أو خرفان أو جداء تلوح في سماء المصارف المفلسة ، فهل من فتوى من تلك الفتاوى التي تستبيح الدم تقول لليبيين اذبحوا أبناءكم هذه المرة، خصوصا وأن ظاهرة ذبح البشر أصبحت في هذا الزمن عادية ومألوفة؟.
لا أدري.. فكل شيء وارد في هذا الزمن المهووس بتقديس العنف. لكن كل ما أعرفه، ورغم الظروف الصعبة، ستصعد أدخنة الشواء من كل بيت في ليبيا لتثبت حقيقة هذا الشعب العنيد الصبور الذي ظل لزمن، وفي قلب المحن، يتدبر أموره بما يشبه المعجزة.