د.علي عتيقة و الأمل و الإرادة و العمل
أمين مازن
كدأبي في جميع رحلاتي التي أقوم بها إلى مسقط الرأس “هون” تحت ضغط الإلتزامات الإجتماعية، أستعين على ملل الطريق، و أُضيف الآن مخاطرها، فأصطحب كتاباً أو مجلةً أو صحيفةً، حملتُ معي في رحلتي التي قمت بها منذ أيام للمشاركة في إحتفال الأهل بالمولد النبوي، المُجلد الضخم الذي أنجزه المرحوم الدكتور علي عتيقة قبل رحيله بفترة قصيرة إذ حمل تاريخ 2013، شاكراً للصديق محمد كانون تفضّلهُ بتزويدي بهذا الكنز المعرفي النفيس الذي كان قد فرغ من قراءته لِتوِّه، و وجد فيه ما يدعو غيره لقراءته.
و قد كنت في رحلتي هذه أكثر تهّيباً من صعوبات السفر، و أشد إصراراً على القيام به في ذات الوقت، إذ الإحتفال بالمولد يُعيدني دوماً إلى إستدعاء الكثير من الذكريات، و أكثر من ذلك التحديات، غير أن مولدنا هذه السنة يحمل القلق الأكبر و الحيرة الأشد و الخوف الأقوى، فحين يكون الرصاص هو ما يمكن أن يُنهي حياة الإنسان بمناسبة أو بلا مناسبة، فإن الخوف يتحول إلى هواء يستنشقه الإنسان و شبح تتخيله العين، و بالذات عندما يكون المرور ببوابات شهدت الكثير من الترويع، مما يجعل السؤال عن مالك السيارة التي على المسافر أن يمتطيها و الركاب الذين سيشاركونه، أول الأولويات، و تصبح القراءة في نهاية المطاف هي العالم الأفسح للتخلّص من لحظات القلق و بالذات حين يخوض المرافقون في ما لا يُحب المرء الخوض فيه من أمور من شأنها إثارة الخلاف الذي لا ينتج سوى الصداع فالقراءة و الحالة هذه خير مُنقذ، و أفضل مساعد لإنفاق الوقت في ما يُفيد.
و يظل موضوع الكتاب و لاسيما حين ينطلق من سِيّر الرجال، في مقدمة ما يوفر العزاء بصدد الوقت الذي يستغرقه فعل القراءة و ما يتركه بذات الوقت فعل الكتابة أما إذا كانت القراءة تتعلق بكاتب تَسَنّىَ لك قدر من معرفته كشخص و دوره كمسؤول، فلا شك أن القراءة ستمتد إلى التحقق من حجم الصدقية أولاً و مقدار الدروس المستفادة ثانياً.
و أشهد أنني عِشت هذه المشاعر مُجتمعة و أنا أنكب على صفحات هذا الكتاب الذي زادت صفحاته على الثمانمائة صفحة من الحجم الكبير، طيلة الساعات السبع التي هي زمن رحلة الذهاب و مثلها الأخرى التي إستغرقها الإياب، و شيئ من وقت الإقامة غير الطويلة سواء و أنا أقراء ما كتب المؤلف أو ما عشته طوال هذه الرحلة الطويلة التي كان المرحوم عتيقة أبرز شهودها و بعد ذلك الفاعلين فيها بجدية منذ أن ظهر ضمن ثالث تشكيل لمجلس إدارة جمعية الفكر الليبية في مطلع الستينيات من القرن الماضي عندما فتحت مقرها في شارع البلدية في مدينة طرابلس، بعد أن كانت تتحرك من نادي الإتحاد بإعتبارها ثمرة ندوات ذلك النادي الذي إتخذ منه بعض المثقفين فضاءً للتحرك و هم يعودون من جامعاتهم بالخارج، و يصدمهم تحول النادي الأدبي و هو يحصر نشاطه في دورات تعليم الكتابة، و يطال الإغلاق لرابطة المعلمين فلا يبقى سوى قاعة المدرسة الثانوية و التي لم يعُد من السهل التحرك منها، بالنظر إلى ما بدا يسود من الإرتياب حول أي نشاط ثقافي خشية تسلل الأفكار الجديدة، و التي لم تعُد تروق لعديد المسؤولين المحليين، و ما بدا يرد إليهم من المعلومات حول الكثير من الطلبة الذين عادوا من القاهرة تحديداً إن و هم قد أكملوا دراستهم أو حيِل بينهم و بينها إن يكن إصطدام الناصرية بحركة الإخوان بدايتها في أوائل و منتصف الخمسينيات فلا شك أن إصطدام الحركات اليسارية بالناصرية أيضاً و عقب قيام الوحدة المصرية السورية التي قامت على حظر النشاط الحزبي كانت أقواها، مما جعل الكثيرين يتحسسون نحو الجمعية المذكورة و لم يسلكوا ما سلكه من هم أكثر وعياً بالإنخراط في ذلك الكيان و العمل لتوظيفه لما يتطلعون إليه، و قد كان علي عتيقة من الذين فضلوا هذا الخيار إذ لم يكن – و خلافاً لما توهّمَ عديد المجايلين له – يعمل لمشروع مؤطّر و إنما يسعى للإستفادة من الممكن، و مما لا ريب فيه أن الرجل كان مُدرِكاً لطبيعة المجتمع الذي شهد بداية حياته و ما يسوده من صراع المصالح التي و إن كانت صغيرة إلا أنها شديدة الحِدّة، ليس خارجها بدون شك تلك المظاهرة التي إنتظمت في مصراتة ضد الشيخ سالم القاضي عندما إختلف مع تيار السعداوي، فأكبر فيه حدبه و طيب تمنياته عندما سعت إليه البعثة الدراسية التي جاءت إليه من ذلك الباب الذي جمع بين الإنصاف و حُسن التقدير من الآخر، و ليس من المستبعد أن يكون قد تناهى إلى سمعه ما كان يتردد من تعليقات غير مسئولة بصدد تأهيله العلمي، إذ عزّ على كثير الخصوم الجدد ممن عرفوا بداية عتيقة التي إرتبطت بنائب المتصرّف الإنجليزي و العمل معه في البيت و المكتب كيف لها أن تتطور إلى تلك المكانة التي عادَ بها، و إذا به بعد أن قطع ذلك المشوار الطويل يقوم بإنجاز هذا الأثر النفيس الذي زاوج بين سيرة الوظيفة و حقيقة البيت و مستوى الطبقة و التي رأيناها لا تسمح له بالإستمرار في العمل حتى في زاوية الزروق أو ميزران و ما شابههما غي مُتحرّج في الإعتراف بأي صغوبة من النصاعب و غير مُتنكر لأي فضل من الأفضال، فهو بالنسبة لواقعنا الليبي واحدٌ من الإستثنائيين إن لم نقل منعدم المثيل جميعاً، فلقد وضع الرجل أمامنا سيرته الدراسية هذه بكل ما يتوفر عليه الواثق في نفسه من الشجاعة، بالإعتراف لذوي الفضل بفضلهم، و غض النظر عمّن كانوا دون ذلك بعدم الخوض في مواقفهم، و قد وضع أمامنا من خلال الوثائق و التفاصيل، الطريقة التي إستطاع بواسطتها أن يتغلّب على كل نقص تشترطه طبيعة الدراسة الأكادمية، حيث تُهمل الشروط و إنما تُوضَع البرامج التي تتكفل بتعويض نواقصها، و قد دعم كل ما ذكر في الخصوص بالأوراق الثبوتية التي مُنِحَت له من تلك الجامعات بله المدارس، و بصدد هذه المسألة ذكرني على الصعيد الشخصي بمعلومات رويتها ذات يوم عن الأستاذ محمد المهلهل أحد الخريجين القدامى في مجال التعليم و الذي حِيلَ بينه و بين تبوّء المكان اللائق بل و الملاحقة أيضاً، الإشتباه السياسي عندما رُشِّح للوزارة في بداية سبتمبر 69، فقد ذكر لي ذات مرة و من خلال تجربته في الدراسة بأمريكا، أنهم أي الأمريكان يُعولون في تقييمهم على إمتحان القبول كي يُصنفوا الموفد بالمكان المناسب له، و هو ما تأكد من خلال ما عرضه عتيقة بتفصيل صريح و موثّق بصور القرارات و الشخصيات و حفلات التخرج و نوعية الجوائز و التكريم. و مع ذلك فقد ظل عتيقة يستشعر الكثير من الحرج إزاء عدم تمكنه من اللغة العربية فرأيناه يعتذر عن بعض التكليفات و يسعى في الوقت نفسه إلى معالجة ما كان يستشعره بمواصلة التحصيل الحر على أكثر من صعيد و لاسيما عندما توجه إلى جامع ميزران في محاولة لتلافي ما فات، و قد كشفت سيرة عمله لاحقاً على تمكنه من تلافي ما فات و هو المؤهل في جميع مراحل دراسته باللغة الإنجليزية بمنآى عن اللغة العربية أو متأثراً بإنجليزته إلى الحد الذي يفقد به شخصيته أو إنتمائه، و إنما هو دائماً ذلك الذي يستكبر على من سبقه علمياً كما لم يتخذ من الإلتزام الديني مبرراً لإدانة المختلفين معه ممن رافقهم في رحلة العمل و حمل معهم المسئولية و وجد لديهم من الصدق ما أثلج صدره و إستحق إشادته فبدا عمله هذا شهادة بالغة الصدق و النقاء و الوعي إزاء تلك المرحلة التي تقلّد فيها داخل ليبيا هذا الكم من المراكز القيادية التي شغلها عن جدارة و إعتذر عن بعضها بصدق أيضاً، فقد أنصف الدكتور عتيقة الإنصاف الذي يستحقه عندما عمل بمعيته في بنك ليبيا المركزي و أسس يومئذ قسم الدراسات و البحوث فقدم الكثير من الدراسات الجادة و التقويمات الجيدة عندما وجد في الدكتور العنيزي نِعم العون و وجد فيه كذلك نِعم القدوة فجعلنا ندرك معشر الذين لم نعرف العنيزي عن قرب و ربما خُيِّل إلى الكثير مِنا أن الدكتوراه التي كان يُقرن رمزها بإسمه هي تلك التي منحتها بعض جامعات إيطاليا و لم تكن تتجاوز الليسانس و أن بعضها كان حول الألعاب الشعبية، و ليس ذلك النوع الذي تثبته قدرات العنيزي في مجال صك العملة و ميزان المدفوعات و أهمية البحوث و الدراسات إزاء الأحوال الإقتصادية و الموازنة العامة، بل إن الرجل حين لمس الكفاية في مرؤوسه هذا لم يتردد في الإستفادة من خبرته بشأن تلييب منصب نائب المحافظ الذي شغله علي جمعة المزوغي عن جدارة بقرار العنيزي أولاً و رعاية خلفه خليل البنَّاني ثانياً، فكلاهما – بحسب عتيقة – خير من يأخذ بيد مرؤوسه بما يوفر لهم من الثقة و حسن الرعاية و مثل ذلك إحترام ما يتوصلون إليه من جيد الإقتراحات الإصلاحية، أما حديثه عن نزاهة حامد العبيدي و عِفّته عن كل ما يخدش السمعة و كذا تقديره لمن يأنس فيهم الكفاية فإن الدكتور عتيقة يُفلِح بواسطته في تصحيح الكثير مما كان مجهولاً عن هذا العنصر الوطني الأصيل و الذي طالما نال منه سوء الفهم و ميل الرجل إلى التواضع و الترفّع عن المظاهر الكاذبة و المفاخرة بالسلطة الزائلة، و حسب هذا الرجل ما وفّره للدكتور عتيقة من الدعم الذي أتاح له أن يقول كل ما لديه حول مشروعات التنمية و مشكلات الأقتصاد و عقود الإمتياز النفطية، و التي عبّرَت عنها التعديلات الإقتصادية و أشهرها تلك التي حصلت بعد خروج السيد محمود المنتصر من رئاسة الوزراة و بقاء وزرائه بعد تكليف أو بالأحرى تعيين السيد حسين مازق برئاسة الوزارة حتى كان ذلك التعديل الموسع و الذي تبين إرتباطه بسياسات النفط و عقود الإمتياز و لا سيما العقد الخاص بشركة الأوكسي دينتل و الذي ما لبث أن أدّى إلى إعتقال وزير النفط عقب سبتمبر 69 و بقائه نحو سنتين من دون أي محاكمة و ما ذلك إلا لأن المحاكمة تقتضي إلغاء العقد و هو ما كان أكبر من يُقدِم عليه النظام، كما أكد الدكتور محمود المغربي و هو يرأس الوزارة عقب سبتمبر و يتبنّى سياسة رفع الأسعار بعكس ما كان يُحذِّر الدكتور عتيقة من مكر الشركات و قدرتها على تعويض خسائرها برفع سعر المواد المُصنَّعَة و عدم القدرة على مواجهة ما يمتلكه الغرب من الأوراق إذا ما أقدمَت الدول المصدرة للنفط على رفع سعره غير المسبوق سنة 1973 و ما بعدها حتى كان ذلك الرفع المهول في المواد المُصنَّعَة بدءً من أقلام الرصاص إلى السيارات بِنِسَب بلغت العشرة أضعاف حتى إذا ما تشبَّع السوق بتلك المادة غير العادية أي النفط و حلَّ موعد خفض الأسعار لأقل من النصف فبقيت المواد المُصنَّعة حيث هي و كان ذلك الغلاء الفاحش الذي أتى على الأخضر و اليابس، على النحو الذي إستطعنا أن نُذكِّّر به في تسعينات القرن الماضي بقصد رد الإعتبار لهذا الخبير الإقتصادي اللامع الذي ظلمه الوطنيون الليبيون ذات يوم كما أشرت شخصياً في معرض التعليق على محاضرة ألقاها أبرز المسئولين على الإقتصاد الليبي هو الدكتور طاهر الجهيمي عندما حاضر برابطة الأدباء و الكتاب الليبيين مُفاخراً برفع أسعار النفط في حين أن الأمر لا يعدو كونه أحد المآزِق الذي أُستُدرِجَ إليها النظام.
و لا شك أنني اليوم أستشعر الكثير من الرضا حين أتذكر كلماتي تلك إذ كان التصريح بها يمكن أن يُساء فهمه أو يُستفاد منه في مجال السباق على تبخيس كل ما ساهمَ به كثير من رجال ما قبل سبتمبر الذين كان من المفروض أن يُستفاد منهم كما تحدث علي عتيقة من خلال حوار دار بينه و بين السيد عمر المحيشي، و هو توجُه لم أكن بمنـأى عنه عقب سبتمبر 69 عندما أُتِيحت لنا فرصة الحديث و شكلنا ذلك التيار الذي تابعه أمثال عتيقة ممن إلتقيناهم و لمسنا منهم الكثير من التقدير.
لقد كانت لقاءاتي مع الرجل محدودة إبتداءً من الأشهر التي تلَت خروجه من السجن حين لم يبخل بالتعبير عن الكثير من الثناء الذي سُعِدت به و آخر جرى في بيت المرحوم عبد الحميد البكوش أثناء بقاء هذا الرجل ببيته و قبل أن يتمكن من السفر لأكثر من مرة و ينظّم بعض شئونه على المهل قبل أن يقرر عدم العودة، و آخر عند عودته عقب السابع عشر من فبراير، و يبقى الكتاب الذي حمل شهادة من أصدق الشهادات و تجربة من أنفس التجارب التي لا غنى عنها لكل من يتطلع إلى معرفة سيِّر الرجال و هم يشقون طريق المعرفة و يُقدمون عصارتها لتُقدم مرجعاً من أنفس المراجع.
و ليرحم الله علي عتيقة مكافحاً و عالماً و إنساناً لا يتنفس سوى الصدق و لا شيئ غير الصدق، و إذا كان قد عَنوَنَ كتابه بالإرادة و الأمل، فإنني أستطيع أن أُضيف إلى العنوان كلمة ” العمل “، فيكون عنوان هذه السطور ” د. علي عتيقة و الأمل و الإرادة و العمل “. إنتهى