دواعي التعذيب
218TV.net مقال خاص
عمر أبو القاسم الككلي
عدة مرات طرح عليَّ سؤال، مبطن ببعض الاستغراب، عن خلو كتابي “سجنيات” من مكابدات التعذيب الجسدي أو،ما يسمى بلغة قانونية ملطفة، الإكراه البدني.
وكان مؤدى إجابتي أنه بالرغم من أنني تعمدت أن يكون كتاب “سجنيات” عملا أدبيا “تخييليا” وليس سردا توثيقيا لحياتي في السجن، إلا أنه تربطه علاقة وثيقة بالواقع. لذا حرصت على أن يكون تجنيس الكتاب بيانا طويلا، بالنسبة إلى طبيعة التجنيس، على النحو التالي:
“نصوص سردية، لحمتها جماليات الكتابة القصصية. وسداها ذكريات وأخبار، مثقلة ببشاعة الواقع، ومتوقدة، في المحنة ذاتها، بإرادة مقاومة هذه البشاعة”.
وحيث أنني لم أتعرض إلى عمليات تعذيب، أو إكراه، بدني،خلا كتابي من سرد مواجع محنة التعذيب.
الواقع أن المتهمين في “قضيتنا” البالغ عددهم ثمانية عشر شخصا (اعتقل منهم ستة عشر). لم يتعرضوا إلى ممارسات تعذيبية.
وهذا أمر يحتاج إلى إيضاح.
لقد كانت “قضيتنا” أول قضية تباشرها “اللجان الثورية” التي تشكلت مع منتصف 1977، أي قبل اعتقالنا بحوالي سنة ونصف. (اعتقلنا يوم 26. 12. 1978). وكانت اللجان الثورية، فيما يبدو، لم تجهز نفسها، حتى ذلك الوقت، لأن تكون جهة اعتقال ومحاكمات. لذا لم تمتلك حينها معتقلات ولم تنشيء محاكم. وبناء عليه سلمتنا، بعد اعتقالنا مباشرة،إلى مديرية أمن بنغازي (بالنسبة إلى المجموعة التي اعتقلت في بنغازي).
لكن ماذا كان سبب الاعتقال؟.
السبب المعلن أننا كنا نشكل تنظيما شيوعيا. الأمر الذي لم يكن صحيحا.
فما هو السبب الحقيقي (غير المعلن؟.).
قبل اعتقالنا بحولي سنة شرعت بعض عناصر اللجان الثورية في الحديث عنا واستعداء النظام علينا من خلال صحيفة “الطالب” ثم من خلال صحيفتي “الأسبوع الثقافي” و “الأسبوع السياسي” اللتين كان عدد منا ينشر بهما. وكانت تتسرب إلينا أخبار بأن هذه العناصر كانت تطلب في لقاءاتها بالقذافي الإيعاز باعتقالنا. لكن رده كان مؤداه أن هؤلاء يتكلمون عن الاشتراكية والخبز والحرية ويعادون الامبريالية، واعتقالهم يعني أنني ضد الاشتراكية والخبز والحرية ومع الإمبريالية.
إلا أن موافقة القذافي على الاعتقال صدرت أخيرا.
لقد كان أمر الاعتقال أمرا “علويا” واُتخذت الإجراءات من أعلى وليس من أسفل، مثلما هي العادة. بمعنى أنه لم يتم اعتقالنا من قبل أجهزة أمن مختصة معنية بتتبع النشاطات الحزبية. إذ ورد في تقرير وكيل نيابة “أمن الثورة” الذي تولى “التحقيق معنا” وهو بشير تامر، والذي تلاه في مرافعته أحد المحامين في قضيتنا، وهو المحامي عبدالرحمن الجنزوري، أن أمين العدل آنذاك محمد الجدي استدعاه، مع زميل آخر لقبه بو مريحيل، إلى مكتبه، وهناك طلب منهما الذهاب إلى بنغازي “للتحقيق في أمر خلية ماركسية اكتشفت هناك”. وحين عادا إلى مقر عملهما وعرضا الأمر على رئيسهما المباشر، رئيس نيابة أمن الثورة حينها عمر الباروني، أمرهما بعدم الذهاب إلى بنغازي قبل ورود “محاضر جمع الاستدلالات الأولية”. لكن الجدي اتصل مجددا وأمر بذهابهما إلى بنغازي. فذهبا رغم عدم موافقة رئيسهما المباشر. ويبدو أن عمر الباروني عزل من منصبه بسبب موقفه هذا وجيء بدلا منه بـحسن بن يونس.
لكننا مازلنا لم نجب على السؤال المهم: لماذا تم اعتقالنا؟.
تعتمد الإجابة، بما أن السبب غير معلن، على التحليل والتخمين، وليس على المعلومات.
في أبريل 1978 وفي نهاية صدام لي مع أحمد إبراهيم منصور، الذي كان زميلي في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة قاريونس، وتمكنت من تحويل هذا الصدام إلى شيء يقترب من النقاش، أو الحوار، صارحني بأن “حركة اللجان الثورية” تفتقر إلى مثقفين.”. “لدينا شباب ثوريون متحمسون” قال “لكن ليس لدينا مثقفون” وأبدى ترحيبه بانضمامي كمثقف، وانضمام غيري بالطبع، إلى الحركة.
لا أريد أن أسهب في الحديث عن لقائي هذا مع أحمد إبراهيم، لكنني أريد أن أستخدمه مفتاحا، أو منطلقا،لتحليلي حول سبب اعتقالنا.
أعتقد أن “افتقار اللجان الثورية إلى مثقفين” كان الدافع الأساسي لأصحاب القرار في قيادة اللجان للإلحاح على اعتقالنا. وذلك لأنهم يدركون، تماما، عدم قدرتهم على المنافسة الثقافية في مناخ ثقافي حر ومفتوح. لذا كان ضروريا “تنظيف الميدان” من منافسين لهم، خصوصا أنهم في نفس أعمارهم، أقوياء ثقافيا. وقد أصابت واقعة اعتقالنا، في تقديري، ثلاثة أهداف حيوية:
* إبعاد منافسين من جيلهم أقوياء و”خطرين” ( حيث سجن من سجن وانسحب من انسحب).
* إخافة مثقفي وكتاب الأجيال الأسبق الذين كان بعضهم قد عاد إلى الكتابة والنشر، بعد توقف طويل، بسبب تأثير النشاط الذي أحدثناه وأحدثه تشكيل اتحاد الأدباء والكتاب الليبيين.
* إضعاف اتحاد الكتاب والأدباء الليبيين ( تشكل قبل أقل من ثلاث سنوات من اعتقالنا) الذي كنا أعضاء فيه والذي تعرض بعيد اعتقالنا إلى موجات من” الغزو” والتمييع، بحيث حول اسمه إلى ” رابطة” بدلا من” اتحاد” ودمج الأدباء والكتاب مع الفنانين واصطنع كيان هلامي سمي”رابطة الأدباء والكتاب والفنانين” وفي فترة من الفترات ضم إليه طلبة المدارس الثانوية الذين كانوا يفوزون في المسابقات الأدبية على مستوى النشاط المدرسي. وفي فترة أسبق اقترح أحمد إبراهيم تسميته بمنتدى أو نادي الأدباء والكتاب (يبدو أن لفظة” اتحاد” كانت تسبب للبعض نوعا من الحساسية الغامضة).
أعود الآن إلى السبب الكامن وراء عدم تعرضنا إلى التعذيب.
تلجأ الأجهزة الأمنية إلى التعذيب، في اعتقادي، في حالتين:
* إذا كانت تمتلك جزءا من المعلومات وتريد الحصول على معلومات أخرى. فيتم “استحلاب” المتهم عن طريق التعذيب إلى أن يدر الدم بدل حليب المعلومات.
* إذا كانت هذه الأجهزة تنوي تلبيس التهمة للمتهم بحيث ترغمه على الاعتراف بما تملي هي عليه ما تريده من معلومات والتوقيع عليها.
وبما أننا لم نعتقل من قبل الأجهزة الأمنية، ولم تكن اللجان الثورية حينها متمتعة بـصلاحية القبض والاعتقال والتحقيق،ولعلها كانت تتوقع بقاءنا في السجن دون محاكمة (نحن الذين كنا نلح على محاكمتنا) وربما كانت واثقة من عدم استقلال القضاء، الأمر الذي يعني أن القضاء ليس محتاجا إلى أدلة كي يديننا، لم نتعرض إلى التعذيب. وهذا كان من حسن الحظ، على أية حال.