دلالات الصمت أثناء النزاع (3)
رينيه جندرون
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
الصمت في سياق الوساطة
يمكن أن يُمثّل الصمت فرصة للوسطاء يعطون فيها للمتحادثين وقتا للتأمل. إذ يمكن له، خلال جلسات بعينها أو في مجمل العملية، منح فرص للأطراف لتقييم الخيارات التي قُدمت ونوقشت. يمكن للصمت أيضا أن يحافظ على تفوق الطرف الصامت في عملية اقتراح الحلول. فبدلا من أن يشعر الوسيط أو المُصالح بضرورة ملئه فراغات الصمت بتواصل لفظي، يمكن للصمت أيضا أن يضيف عبئا على الأطراف المتنازعة من أجل مزيد من المناقشة بغية التوصل إلى حلول ممكنة، بإبعاد الوسيط أو المُصالح من هذا الجزء المحدد من النقاش قد تكون أطراف النزاع أكثر ميلا لعرض مزيد من المعلومات أو معلومات جديدة، أو خيارات مختلفة.
كذلك يمكن أن يشير الصمت إلى وجود عاطفة ودافع أو نية لم يسبق لها أن عولجت أو نوقشت بشكل كامل أثناء العملية. صمت طرف ما، أو عدم إرادته المضي إلى مدى أبعد في اكتشاف قضية معينة، يمثل فرصة جيدة لتقريب وجهات النظر وتسليط الضوء على موضوع بعينه، ومن الممكن أن يقدم فرصا لإعادة التفاوض بشأن مجمل عملية الوساطة (كرِفس، 2007). قد تتوفر ظروف من شأنها الرفع من مستوى المخاطر أو التهديدات تستولي على الفرد.
وعلى الرغم من أن البعض قد يستجيبون لذلك باللجوء إلى العدوان، إلا أن العديدين يلجأون إلى الصمت. يدمج (إيكرسلي، 2002) عمل ميسي حول الحاجة الإنسانية إلى الأمل، فيقول “الحالات التي ‘تشل الروح‘ تقتطع ضريبة باهظة، فهي تُفقر الحياة العاطفية والحساسية”. وهكذا، ففي حالة الوساطة، قد يكون الصمت مؤشرا إلى أن طرفا أو أكثر قد فقدوا الثقة (الأمل) في العملية أو في التوصل إلى حل معقول.
الصمت، الذكاء العاطفي والوساطة
يمتلك الذكاء العاطفي في سياق النزاع، مثلما في سياق الوساطة، بُعداً استكشافياً وتواصلياً. تستطيع أطراف النزاع التوقف قليلا والحفاظ على الصمت لتأمّل منظوراتهم ومنظورات الطرف المقابل. سالوفي وآخرون (2008)، حاججوا بأنه يمكن للذكاء العاطفي مساعدة الفرد في “توليد أو محاكاة مشاعر حيوية لتسهيل الأحكام والذكريات المتعلقة بالمشاعر” وهذا الذكاء العاطفي ينطوي على “القدرة على تفسير المشاعر المعقدة من مثل العواطف المختلطة وحالات المشاعر المتعارضة”. حين يكون الصمت ملائما يمكنه تقديم وتسليس الفرص التي يتمكن فيها الفرد من التأمل [التفكير]. أثناء المحادثة يمكن للصمت توفير فضاء تستطيع فيه الأطراف التأمل وتحقيق استيعاب أكبر لتعليقات الطرف المقابل. مع استمرار النقاش، قد تقرر الأطراف توسيع العملية بحيث يعمل طرف أو أكثر على واحد أو أكثر من فروع الذكاء العاطفي الأربعة التي حددها سالفوي وغريوال (2005).
يخص الفرع الأول تلقي العواطف والإشارات إلى درجة دقيقة والتحديد الصحيح للعواطف والإشارات في التواصل الشفهي والمواضيع الثقافية وتعابير الوجه. الفرع الثاني من الذكاء العاطفي يتعلق باستخدام العواطف. سالفوي وغريوال يحاججان بأن هذا الفرع يتصل ببث العواطف لتعزيز المعرفة والتفكير وحل المشاكل، الفرع الثالث هو استيعاب العواطف، وهذا يتطلب من الفرد أن “يستوعب لغة العاطفة وتقدير العلاقة المعقدة بين العواطف”، الفرع الرابع يرتبط بإدارة العواطف، أي بوعي الفرد بالعواطف وإلى أية درجة يستطيع السيطرة على عواطفه، وهذا يتطلب من الفرد أن يكون واعيا بكون عواطفه إزاء شخص أو حدث تتغير مع مرور الوقت، هذا يتعلق أيضا بمقدرة الفرد على إدارة عواطف الآخرين، بمعنى أن الفرد يمكنه ترتيب عواطفه هو شخصيا وييسر استجابة الآخرين العاطفية. يقدم سالفوي وغريوال (2005) مثالا عن إثارة سياسية لغضبهما إزاء وضع واستخدام ذلك الغضب خلال خطبة لحض السامعين على الانخراط في فعل.
تغيير عملية الوساطة بحيث تتضمن عملية أخرى يمكن أن تشمل التدرب والتمرن والزمن/ أو الفضاء المخصص للتفكير [التأمل]، وبالمثل إمكان الدفاع عن أي طرف من الأطراف خلال الوساطة، يمكن لأي فعل من هذه الأفعال أو هذه العملية برمتها مساعدة طرف أو أكثر على زيادة ذكائهم العاطفي، إذا ما قرر الوسيط أن الصمت الذي جرى بين الأطراف سلبيا أو هداما فإنه يمكنه العمل مع طرف أو الأطراف كلها لرفع مستوى الذكاء العاطفي لديهم، قد يفسر أحد الأطراف النية من التواصل أو جوهره تفسيرا خاطئا ويغضب لذلك، وعلى العكس، قد يبث أحد الأطراف رسالة نزيهة تحتوي حلا ممكنا يحظى باتفاق من خلال أسلوب عدواني، وأخذا منهج التقديم في الاعتبار، لن تستقبل الرسالة على نحو جيد ويشعر المتلقي أنه جرح بسببها. باستخدام فروع سالفوي وغريوال الأربعة المتعلقة بالذكاء العاطفي (التلقي، الاستخدام، الاستيعاب وإدارة العاطفة) يمكن إضافة ملاحظات ذات صلة وطرح أسئلة مناسبة. قد تأخذ الأطراف وقتا إضافيا لمناقشة الكيفية التي يفسرون بها عواطفهم هم أنفسهم، وكذلك عواطف الأطراف النظيرة.
هذا التمرين يلقي مزيدا من الضوء على عمليات التواصل والأحداث السابقة، معززا، بذلك، مجمل خبرة الوساطة. ويمكنه أيضا تحسين نوعية الحوار بين المشاركين الذين يحققون تقدما من خلال إحرازهم وعيا متزايدا بعواطفهم هم أنفسهم، والكيفية التي استقبلت بها من قبل الأطراف النظيرة، وكيف أن سلوكهم يؤثر على مجمل التفاعل خلال عملية الوساطة. وخلال مدة العملية، ثمة عدة طرق يمكن بها احتواء الصمت. على الوسيط أن يقدر، بداية، احتياجات أطراف النزاع. فقد يكون ثمة اختلال موروث في توازن القوة، أو أن ثمة موضوعا معينا ذا حساسية تنبغي مناقشته، أو قد تكون أطراف النزاع منتمية إلى خلفيات ثقافية مختلفة يلعب فيها الصمت أثناء التواصل دورا يختلف إلى حد كبير. قد يكون ثمة أيضا بضع قضايا تتطلب النقاش والحل، كما يمكن أن يكون ثمة وضع تتوفر بشأنه معلومات غير كافية أو غير دقيقة.
فترات الصمت يمكن بناؤها أثناء العملية، لتتيح الفرصة لفترات من التأمل مقررة ومتفق عليها سلفا. يستطيع الوسيط الإعلان بداية كل جلسة أنه لن تتم مقاطعة فترات الصمت، وبمقدور الأطراف الجالسة إلى المنضدة وحدها قطع الصمت. منهج آخر من مناهج تكييف العملية لتلبية أفضل لاحتياجات المشاركين، خاصة تلك المتعلقة باستخدام الصمت، يمكن أن يحدث من خلال تبطئة العملية نفسها بمجملها. فبدلا من الاقتصار على جلسة واحدة يُتوقع منها تغطية وحل جميع القضايا، يمكن تقسيم العملية إلى جلسات مختلفة. وهذا سيوفر وقتا بين الجلسات يسمح للمشاركين بالتأمل وتقييم مكانهم ضمن العملية. الزمن الفاصل بين الجلسات يمكن أن يكون فترة انقطاع الاتصال بين الأطراف، أي أنه خلق حالة صمت.