داعش الأخرى.. والجنوب المنسي
د. عبد المنعم مفتاح الشوماني- باحث في شؤون الجماعات المتطرفة
اختفت أم انتهت؟
يتساءل كثيرون أين هي داعش الآن؟ هل اختفت، أم انتهت؟ وهذه التساؤلات عندما يطرحها غير المختصين، ويضعون لها إجابات خاطئة تساهم في تضليل الرأي العام، وربما تساهم في تضليل أجهزة الدول التي تعاني من عدم بناء أجهزتها الأمنية بشكل علمي يلائم تحديات العصر، وبعيداً عن نظرية المؤامرة المبالغ فيها نجد أن هذه التنظيمات الإرهابية قد أحرجت أجهزة دول كبرى، وذلك لكونها عدوا غير تقليدي، يتم التعامل معه على شكل ردة فعل ليس إلا.
والإجابة عن هذا السؤال تتكون من شقين، الأول داعش كفكر متطرف، والثاني داعش كتنظيم إرهابي، وفيما يخص داعش كفكر هي ما زالت موجودة، بل وتحت رعاية رسمية من أغلب الدول التي لا تعي كيف خرجت داعش بالأساس – أقصد من الناحية الفكرية-، ولمعرفة منطلقات داعش الفكرية سنقوم بترتيبها والحديث عنها بشكل موجز.
حدّ الرِدة: يعتبر حدّ الرِدة من الأسس التي ينطلق منها هذا التنظيم، وهذا يفسر توجه التنظيم لمحاربة حكومات وأجهزة أمنية في بلدان تدين بالإسلام، ومن المضحك المبكي أن نجد مسؤولين بقصد، أو بجهل يرددون عبارة أن داعش مؤامرة خارجية لا تستمد فكرها من الإسلام ويطرحون سؤالاً استنكارياً لا ينتظرون إجابة له وهو لماذا لا يهاجم التنظيم إسرائيل مثلاً؟، ولعله من البديهي والمعلوم للجميع أن حدّ الردة لا نقاش فيه عند أغلب دور الإفتاء والمنابر الرسمية للدول الإسلامية، بل وتعرّض من ناقشه من الناحية الفقهية للرمي بالردة.
الحاكمية ودين الدولة: داعش كتنظيم فكري يستمد أصوله من تراث أصولي ضارب في عمق التراث الإسلامي لا يخرج عنه، وهذا التراث يرى أن رئاسة الدولة منصب ديني يتطلب شروطاً، ويترتب عليها نواقض متى ما خرج الحاكم عنها- والخلاف فقط في رفع السيف عليه- وهي مسألة تقاس فقهياً بين الضرر والسلامة فقط عند أغلب الفقهاء.
الجهاد: تنظيم داعش أيضاً يعتبر الجهاد أصلاً من أصول الدين وإن كان يخالف الكثيرين في شروط القيام به من وجود ولي أمر شرعي، وإعداد العدة، وهي مسائل تفصيلية وليست رئيسية في هذا المفهوم.
السبي: ربما كانت حادثة سبي الأيزيديات صدمة للعالم الغربي، وحتى لشعوبنا ونحن في هذا العصر، هذه الصدمة زالت عن كثيرين عندما اكتشفوا أن من يحاربون داعش ويصفونه بالتنظيم الإرهابي (وهم في الحقيقة يصفونهم بالخوارج وهو وصف ديني لا مجال للتوسع فيه في هذا المقال)، يتفقون معه في أنه من الإسلام ويضعون له شروطاً تحسينية ليس الا.
هذه المنطلقات التي ينطلق منها التنظيم فكرياً توفر عليه عبء الجهد الفكري الذي ربما يحتاج عقوداً إن لم نقل قروناً لوضع وعاء فكري لتنظيم إرهابي، ولكن التنظيم هو وغيره من التنظيمات الإرهابية لا يصرفون وقتاً طويلاً في البناء الفكري باعتبار أن الأساس الفكري موجود وغيرهم يقوم به، لذلك ما يقوم به التنظيم من ناحية الإعداد الفكري هو لفت الانتباه لهذه المنطلقات فقط.
لذلك يمكننا القول أإن التنظيم لم ينته فكرياً، وإن انتهى تنظيمياً وهذه أيضاً محل نقاش كبير، فهذه التنظيمات تعمل في الخفاء وربما كان داعش طفرة في مكوناتها باعتباره التنظيم الأول في العصر الحديث الذي يعلن عودة ما يُسمى بالخلافة، وبعد هزيمة التنظيم عاد لساحته الأصلية وهي العمل في الخفاء، لذلك لا يملك أحدنا دليلاً ملموساً أن التنظيم قد تفكك تنظيمياً بعد مقتل زعيمه.
جغرافية داعش
تنظيم داعش نشأ في مساحة جغرافية مفتوحة وهي بيئة صحراوية أو شبه صحراوية في أغلبها، بعكس تنظيم القاعدة الذي نشأ في بيئة جبلية تركت بصماتها في التنظيم، فنجد أن التنظيم حتى عندما انطلق للعمل في بلدان أخرى لجأ للجبال، كما أن أغلب أعضاءه الفاعلين جاؤوا من بيئة جبلية، أو أمضوا وقتاً طويلاً في بيئة جبلية، ولهذا نجد أن داعش ظلت نشأته الصحراوية تلازمه حتى عندما انتقل لبلدان أخرى -مع بعض الاستثناءات- التي فرضتها عليه ظروف البداية، لذلك نجد أن قوة التنظيم كانت في الأراضي المفتوحة وليس في المدن، أو الجبال، وهذا الأمر يفترض أن يكون محط اهتمام فأنت إذا كنت تجهل تركيبة عدوك فلا يمكنك منع عودته، أي نعم قد تنتصر عليه، ولكن هذا لا يمنعه من العودة من جديد.
عوامل عودة تنظيم داعش
عدا الأساس الفكري يحتاج التنظيم لعوامل أخرى للعودة، وهي متى ما وجدت كانت مؤشرات حتمية لعودته تنظيمياً، أو حركياً في شكل تجمعات صغيرة، ولكنها تفرض سيطرتها على مساحة جغرافية معينة، وبما أن التنظيم له تجربة سابقة في الإدارة المحلية وعوامل جذب أو تحييد التجمعات المجتمعية التي يريد بسط السيطرة فيها، وهنا نعرج على بدايات ظهور داعش في العراق حيث ظهر في بيئة مفتوحة وشاسعة وبلا سيطرة حكومية فعلية، وأيضا غير منضبطة أمنية، وفيها صراعات مذهبية، وعرقية، ولعل الجميع يعلم كيف استطاع التنظيم تحييد المكون السني في بداية ظهوره في العراق والذي كان في صراع مع المكون الشيعي، كما أن وجود قوات أجنبية كانت محل امتعاض من السكان ما جعل الكثيرين يرون التنظيم يخوض حرباً بديلة عنهم لطرد الأجنبي، وأيضاً كان ظهور التنظيم وسيطرته الجغرافية على مساحة تجمع دولتي العراق وسوريا وإعلانه أنها دولة واحدة، نظر إليه البعض فرصة سانحة لإعادة ترسيم المنطقة وبالتالي تحقيق حلم نشوء دولتهم وهنا أقصد المكون الكردي.
الجنوب الغربي الليبي، بيئة جاذبة.
منذ انهيار التنظيم وتفككه ساد قلق من احتمالية عودته من جديد، ورغم أنه بعد مضي وقت طويل على صمت التنظيم شعر كثيرون بارتياح ولم تعد تطرح تلك الأسئلة المتعلقة به، وهنا نطرح احتمالية عودة التنظيم للظهور في بلد آخر غير موطن ظهوره الأصلي، وما نطرحه هنا ليس تحليلاً استخباراتياً فهذا ليس من اختصاصنا، وإنما ما نطرح هنا هو مناقشة عوامل نشأته وما هي البيئة الملائمة له، والتي يتوقع أن يظهر فيها التنظيم من جديد.
الجنوب الغربي الليبي يظل الحلقة الأضعف في ليبيا لإمكانية عودة التنظيم بشكله السابق، أو بالعودة لشكل التنظيمات التي قبله، وهنا نبين لماذا الجنوب الغربي بالذات هو الحلقة الأضعف:
الجنوب الغربي مساحة شاسعة مفتوحة قليلة السكان.
الجنوب الغربي يضم عدة مكونات عرقية فيما بينها صراع وجود.
الجنوب الغربي جزء من حلم لمكون عرقي في إنشاء دولة تمتد في جزء كبير منه وهي كادت أن تعلن قبل عقود.
الوجود الأجنبي متوفر نتيجة امتداد بعض المكونات العرقية بين الدول الحدودية.
ضعف الأجهزة الشرطية في فرض الأمن ومنع أخذ الحق باليد.
انتشار الحرابة والاعتداء على ممتلكات الناس.
هذه أهم العوامل التي تتشابه لحد كبير مع عوامل ظهور التنظيم الأول في العراق، وما تبعه من كيد بين الخصوم في الشماتة وترك الخصم يواجه ويلات التنظيم منفرداً حتى ذاقوا جميعاً ويلاته.
ما قبل المواجهة
طالما هناك احتمال لمواجهة عدو ما فمن الخطأ عدم الاستعداد لهذه المواجهة ومنع حدوثها أصلاً، وفي خضم الصراع السياسي والمحاصصة السياسية بين الفرقاء في ليبيا ربما نسي الجميع خطر هذا التنظيم، أو لنقل قللوا من خطره، إن الاعتماد على المواجهة العسكرية مع هذا النوع من التنظيمات مغامرة كبيرة لا يحمد عقباها، قد ينتج عن هذه المواجهة إعادة ترسيم الحدود وضياع جزء من الوطن، وهذا لوحده يكفي للإحساس بالخطر، ولا يخفى على المهتمين بهذا الشأن أن الدول التي اكتوت بنار هذه التنظيمات غيرت في تركيبة أنظمتها الحكومية بما يمكنها من معرفة دقيقة لهذا العدو، وحقيقة كان من المستغرب عند إعلان الحكومة الوطنية، وتكليف عدد كبير من الوكلاء ألا يكون هناك وكيل لشؤون الإرهاب في وزارة الداخلية، أو بناء جهاز مختص مهمته دراسة هذا التنظيم وغيره، ومنح الحكومة سبق اتخاذ احتياطات استباقية حتى لا تجد نفسها في موقف ردة الفعل، وهذا لا يلغي دور الأجهزة الأمنية الموجودة، ولكن حتى الدول ذات الاستقرار السياسي أنشأت أجهزة مختصة بالإرهاب تمد الحكومات وصانعي القرار بالمشورة والدراسات، فما بالك في بلد يكاد يخلو من مراكز بحثية، وهي تواجه عدواً غير معتاد وليس له وجه واحد.
إن عدم معرفة العدو هو سبب رئيس في خسارة المعركة، أو أن يكون ثمنها باهضاً، بدلاً من تجنبها من الأساس.