خمسون القمر
جمعة بوكليب
حين هبط رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ، كابتن المركبة الفضائية «أبولو 11»، درجات سلم الكبسولة الصغيرة، ووضع قدميه على سطح القمر، لأول مرّة، كان ذلك يوم 20 يوليو (تموز) 1969، وأكثر من نصف مليار من سكان الأرض يشاهدونه متابعين، ومندهشين على شاشات التلفاز، في جميع قارات العالم، كان أول ما قاله: «إنها خطوة صغيرة لإنسان، وقفزة عملاقة للبشرية».
يوم 20 يوليو 2019، يوافق مرور الذكرى الخمسين على تلك المقولة الخالدة، وتلك المحطة التاريخية، وذلك الحدث العلمي، الذي فتح آفاقاً رحبة، وصفحات جديدة في مسيرة الإنسانية الطويلة وفضولها المعرفي لسبر أغوار الكون بأمل اكتشافه واستعماره إنْ توفرت في أي كواكبه البعيدة مكونات الحياة البشرية.
الوجه الآخر للبشرية التي ذكرها رائد الفضاء أرمسترونغ، لم يكن باعثاً على الأمل، بل الخوف. البشرية، في الصورة الثانية، وقتذاك، كانت مقسومة إلى معسكرين متعاديين، ومسلحين نووياً.
قبل أقل من عام من وضع قدميه على سطح القمر كانت قوات حلف وارسو بقيادة سوفياتية قد وصلت إلى براغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا سابقاً، واحتلتها مجهضةً ربيعها. وقبلها بعام زحف جيش الدفاع الإسرائيلي مقتحماً حدود وجيوش ثلاثة بلدان عربية. وفي أفريقيا، كانت نيجيريا خائضة في حرب بيافرا الأهلية، ولم تخرج من نفقها الدامي إلا في بداية 1970، وكانت بريطانيا قد بدأت تعد العدة لمواجهة حرب استنزاف مع الجيش الجمهوري الآيرلندي في شمال آيرلندا وفي شوارع العاصمة لندن. وكانت بلاده، أميركا، بكامل عتادها وجبروتها تغوص حتى الركبتين في مستنقعات وأحراش غابات فيتنام. وفي الداخل تعاني من تفاقم الوباء العنصري وظهور حركة الفهود السود المسلحة. وكانت بلادي، ليبيا، تتهيأ للانعطاف في مسار تاريخي خطير سوف يأخذها مخطوفة على أنصال حراب البنادق إلى متاهات وأنفاق لم تخرج منها بعد.
في تلك اللحظة البعيدة، كنتُ أنا هناك في طرابلس، أشاهد أرمسترونغ، محدقاً بعينين غير مصدقتين في شاشة جهاز تلفاز أبيض وأسود. في تلك اللحظة الفاصلة بين عصرين، كنتُ قد غادرت، غير آسف، سذاجة سنوات صباي، وتسلقت درجات سِني مراهقتي الصعبة، وبدأت بحذر وتوق في تذوق طراوة فاكهة شجر الشباب، وأيضاً في سبر غور ما يحيط بي من حيوات وعوالم جديدة، بغرض التعرف عليها وعلى أمل قبولي ضمنها وإتاحة الفرصة لي لشق مسار لحياتي في عالم لم يكن على عجل، مثلي، لقبولي، ولا السماح لي بتجاوز خطوطه التي حددها لكل من كانوا على شاكلتي. لذلك، لم يكن لي من خيار سوى الامتثال، أو التمرد. فاخترت اختراع أجنحة والطيران إلى سطح القمر، حيث كان أرمسترونغ يقف في نقطة متقدمة جداً في مسار التاريخ الإنساني، مثيراً فيَّ الرغبة للحاق به ومرافقته، لمشاهدة ومراقبة الكرة الأرضية من آلاف الأميال وهي تتقلب بمواجعها وآلامها وأحلامها في مدار الزمن.
الكون لم يتغيّر، فهو ما زال على حاله. ما تغيّر هو التقدم العلمي، وما أحرزه الإنسان من قفزات رائعة أتاحت له بعد خمسين عاماً أن يرسل مركبة فضائية أخرى لتهبط على السطح المظلم للقمر، وشجّعته على البدء في استعداداته لإرسال بشر إلى كوكب المريخ. لذلك، فإنني كإنسان أشعر بالفخر لأنني كنت محظوظاً بالعيش في زمن إبداع العقل البشري، وتفتُّح زهر المعرفة العلمي، وتسارع خطوات الإنجاز الإنساني. وفي الوقت ذاته، أشعر بالإحباط والانكسار، لأن البشرية بكل ما حققته في مسيرتها ما زالت لم تغادر مربع الحرب والقتل. وما زال الإنسان فريسة للوحدة وللوحشة. وما زال أكثر سكان الأرض يعانون من الفقر، ويموتون غرقاً في أعماق البحار، وعطشاً في لهيب رمال الصحاري، هرباً من ضراوة وآلام واقعهم الحياتي، وبحثاً عن حياة أفضل. وما زلتُ، شخصياً، رغم مرور السنين، أتبلغ كسرات مرارة خبز اغترابي، على أمل أن أحط رحالي، ذات يوم، متخففاً من ثقل حمل آلامي، في محطة أخيرة، تكون مستراحي وملاذي الآمن ووطني المنشود.
نصف قرن مرّ سريعاً على تلك القفزة البشرية الهائلة. اختفت خلالها أمم من خرائط العالم وظهرت أخرى. وتلاشت فلسفات وأحزاب سياسية وعادت أخرى قديمة – جديدة للانبثاق. وشاهدنا على شاشات التلفاز بشراً من لحم ودم وأحلام يُذبحون بالسكاكين ونساء يُغتصبن ويُبعن في أسواق نخاسة، وأناساً أبرياء يتحوّلون، في لحظة، إلى شظايا لحم بشري محترق ملقى على الأرض في شوارع مدن العالم المختلفة. ومع ذلك، ورغم كل تلك الانتكاسات والانكسارات، ما زالت البشرية تقاوم أشواك الشر بخير العلم، والحرب والقتل بالدعوة إلى السلام.
الفردوس المأمول للإنسان – استناداً إلى ما مرَّ في التاريخ البشري من وقائع وتجارب وحوادث – قد لا يتحقق على سطح الكرة الأرضية، لكن ذلك لا يعني مصادرته كحلم إنساني نبيل. إذ ربما، بفضل سرعة التقدم العلمي الهائل، يصير واقعاً متحققاً، خلال مدة زمنية قد تقصر أو تطول، على سطح كوكب آخر، من كواكب كوننا الهَرِم.