حيلة الجمال، وجمال الحيلة
عمر أبو القاسم الككلي
هذا كشف عظيم، ومفاجأة أخاذة. إنه كتاب “كتاب الحديقة (وهو سفر الخلافة)”. وهو كتاب يعد نجما ساطعا في دنيا الأدب الصوفي. يكاد أن يكون فريدا. وأقول “يكاد” لأنه يذكرك بكتابي النفري “المواقف” و”لمخاطبات”. لكنه يتقدمهما بخطوتين: الجيشان الشعري وكونه مبنيا بناء سرديا يمكن أن يلحقه بالرواية. وقد صنف باعتباره “رواية صوفية”. فالكتاب، فعلا، رواية. لكنها رواية من نوع خاص، لا يفيها وصفها بالصوفية حقها.
وهي “رواية صوفية” تدور في فلك التصوف الإسلامي، الذي تولد عن نزعة الزهد والانعزال التي انتهجها بعض المسلمين الأوائل (= الصحابة) إزاء النزاعات على السلطة والفتن والاضطرابات الداخلية، فنأوا بأنفسهم عن معمعان السياسة والشؤون العامة. لاحقا أضيف التقشف والتشدد فيه إلى نزعة الزهد هذه وتدخلت عوامل جور الحكام والاختلاط الثقافي في صياغة التصوف حيث أن المتصوفة “فلسفوا الزهد وجعلوه مقامات وأقساما. وكان من زهدهم لبس الصوف الخشن كما يفعل رهبان النصارى، فسموا من أجل ذلك بالصوفية، وهذه النسبة هي الصحيحة، وهي التي تتفق مع اللغة” (1: 390)*.
إلا أنه تواجهنا حيرة (كي لا أقول “بلبلة”) عندما نقرأ هذا الكتاب. فالمتحدث في هذه الرواية، بالمعنى التراثي، أي رواية خبر أو واقعة، وليس بمعنى المصطلح الأدبي) هو الشيخ بلخير الغدامسي. ولدينا، في هذا الكتاب، فترة حياته (1862- 1954). فمتن الكتاب كلامه خطه هو بقلمه، أو أملاه على أحد مريديه. و “حاشية: أبو الحارث موسى بن إبراهيم “** أي أن أبو الحارث موسى إبراهيم محقق كتاب الشيخ بلخير.
إلا أنه انكشفت لنا حقيقة أنه لا وجود تاريخيا للشيخ بلخير هذا، وإنما هو مجرد شخصية تخييلية من خلق أبو الحارث موسى إبراهيم وإبداعه.
هذه الحالة ليست جديدة في تاريخ الأدب شرقا وغربا. فعمل “ألف ليلة وليلة” مثلا، ينتهج جامع حكاياته ومنسقها وواضع حكايتها الإطارية حيلة مقاربة حين يسند “الراوي العليم” بواستطتها مقاليد القص فيها إلى “شهرزاد” ويبقى هو أشبه ما يكون بحارس بوابة القص، حيث يفتحها عند انعقاد السمر ليلا بقوله “… قالت”. ويغلقها بقوله: “وعندما أدرك شهرزاد الصباح سكتت عن الكلام المباح”. أي أن شهرزاد هي المسؤولة عما يرد في حكاياتها، ولا تعبر عن وجهة نظر راوي كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي كان له فضل إيصاله إلينا. وشخصية شهرزاد شخصية غير ذات وجود عياني.
وفي مقامات بديع الزمان الهمذاني يوكل المؤلف مسؤولية نقل أحداث المقامات إلى عيسى بن هشام. ويحذو الحريري في مقاماته حذوه فيسندها إلى الحارث بن همَّام.
في الأدب الغربي سنشير إلى ثلاثة أمثلة. ميغيل دي سربانتس صاحب رواية “دون كيشوت” يقول أنه ينقل إلينا مخطوطة كاتب عربي مسلم اسمه سيد حامد بن النجيلي Cide Hamete Benengeli. وهرمن هيسة يصف روايته “لعبة الكريات الزجاجية” بأنها “محاولة كتابة تاريخ حياة الماجستر لودي يوزف كنشنت مذيلة بما خلفه من كتابات. أخرجها هرمن هسة”. أي أنه يصف نفسه بأنه مخرج العمل (= محققه)، وليس كاتبه. هذا، وقد أثارت رواية كاتب أمريكي اسمه مايكل كرايتون Michael Crichton عنوانها “آكلو الموتى Eaters of The dead” بلبلة في الأوساط الأكاديمية والثقافية لأنه قال عنها أنها مذكرات الرحالة العباسي أحمد بن فضلان المعروفة بالعنوان “رسالة ابن فضلان” التي يصف فيها رحلته من بغداد إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة.
الرسالة محققة ومطبوعة ومنشورة سنة 1960. لكن كرايتون، الذي يصف روايته هذه بأنها “رواية تاريخية” ويقول أنه يسرد فيها رحلة ابن فضلان، يورد وقائع أخرى غريبة وعجيبة لم ترد في الرسالة، الأمر الذي جعل الأكاديميين والمثقفين العرب، خصوصا، يتساءلون عن مصير “الأجزاء المفقودة”. لكن تكشف الأمر عن أن كرايتون هو مؤلف “الأجزاء المفقودة”.
وإذن، فأبو الحارث موسى إبراهيم انتهج “حيلة”*** فنية موجودة، لهدف جمالي يوهم بالواقع محاولا إخفاء الفن وتشويش عقل المتلقي وتحفيزه على التفكير. ولا ينبغي أن ننسى أن الأعمال التخييلية، السردية والمسرحية، قاطبة، تقدم نفسها إلى المتلقي على أنها واقع، وليست خيالا، بما فيها تلك الأعمال التي تدور في عوالم الكائنات الخرافية وبين الموتى.
* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع أسفله، ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المقتبس منها.
** نعتمد هنا النشرة الأولى للكتاب: “كتاب الحديقة، وهو سفر الخلافة” متن الشيخ بالخير الغدامسي، حاشية أبو الحارث موسى بن إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2015.لأن التعريف في النشرة الثانية المنشورة بعنوان: “الحديقة الغدامسية”يتحول إلى: “السارد الشارح”. انظر “الحديقة الغدامسية”، موسى إبراهيم، دار عرب للترجمة والنشر dararab. الطبعة الأولى الكاملة، 2020.
1- أحمد أمين، فجر الإسلام، تحقيق وتعليق: محمد فتحي أبو بكر، الدار المصرية اللبنانية ط2، القاهرة 2016
*** في تاريخ العلوم العربية الإسلامية كانت الميكانيكا تسمى “علم الحيل”. أي أن المقصود هنا “الحيلة التقنية (= الفنية).