حياة الحميدية (3)
سالم الهمالي
ثلاثة أشياء تركن اثرا بليغا على حياة الليبيين في النصف الثاني من القرن العشرون: أولهما، هو انشاء المملكة الليبية، والثاني هو اكتشاف البترول وبداية تصديره التجاري، أما الثالث فسأترك الحديث عنه حتى يأتي سياقه.
البعض ربما يجهل انه وحتى بداية القرن العشرين، كانت مدينة مرزق هي حاضرة او عاصمة فزان، ففيها مقر الأمراء والسلاطين لدولة اولاد امحمد الفاسي، وهيئة القضاء التي تتبع الدولة العثمانية، ذلك تغير تدريجا منذ فترة الاحتلال الايطالي لليبيا وما تبعه من احتلال الفرنسيين لمنطقة فزان سنة ١٩٤٣، في أعقاب انتصارهم في الحرب العالمية الثانية. شيئا فشئيا كُبرت مدينة سبها، وأصبحت المركز الأكبر والاهم في الجنوب الليبي.
العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ربطت بقوة بين بلدات وادي البوانيس، بالمصاهرة والمعاضدة في المسرّات والمضرّات، ولاتزال تلك العلاقة التاريخية واضحة المعالم الآن، بل يمكن القول انها اكثر من ذي قبل، فنادرا ما تقام مناسبات الافراح او الأتراح بدون تواجد ملحوظ من البلدات الثلاث. تاتي بلدات مدينة سبها (الجديد والقرضة وحجارة) في الترتيب الثاني وبنفس الدرجة مع تلك العلاقة التي ربطت بين اهل الحميدية وبلدة أشكده وقيره ومدينة براك. العملة المجيدية، التابعة للدولة العثمانية هي السائدة في القرن التاسع عشر وبداية العشرون، حتى دخلت عليها ايطاليا كقوة استعمارية سنة ١٩١١، فطردت الأتراك وعملت على ترسيخ خططها الاستيطانية بداية بالشريط الساحلي ثم مناطق الدواخل، حيث لا تزال قلعة براك والقاهرة بسبها شاهدة على ذلك.
هنا، يمكن القول ان المركز او عاصمة الجنوب تغيرت بتغير الحكومات او القوى المستعمرة لليبيا، فارتبط الأتراك بمرزق، والطليان وبعدهم الفرنسيس بسبها.
لاتزال مباني الحميدية (تمنهنت) تحتفظ في مجملها بشكلها الذي كانت عليه قبل اكثر من قرن من الزمان، وما تهدم منها كان نتيجة العوامل الطبيعية كالرياح والأمطار. أما السبب الرئيس لاحتفاظها بشكلها الموروث فهو ان تمنهنت الجديدة انشات على مسافة منها، تبلغ ما يقرب من الكيلومتر، وفق مخطط عصري شمل مرافق الحياة الحديثة من شبكات الكهرباء والماء والتصريف الصحي، تعمل بكفاءة حتى الساعة.
الغريب في الامر، ان هذه النقلة ليست الاولى، اذ يقول كِبار اهل البلدة ان تمنهنت (الحميدية) القديمة أنشئت على مسافة ما يقرب من الخمسة عشر كيلومتر عن بلدة (هنت) التي تقع في منتصف الطريق الى مدينة سبها، واندثرت بشكل كبير اذ لم يتبقى منها إلا آثار بسيطة، ويعزون التسمية الى انها كانت تمثل ثُمن عدد سكان (هنت)، فأسماها الخرَّاصون (تمنهنت)، بما يعني انه تدفع ثمن الجباية او (الميري) لمن يمثل الدولة العثمانية في مرزق. بذلك انتشر اسم تمنهنت واضمحل استخدام الاسم الأصلي او القديم (الحميدية).
القصبة، الجبَّانة، الخوخة، باب سعيد، والمحضرة، كلمات متداولة حتى الآن، تؤكد الصِّلة بين سكان البلدة القدماء وبلاد المغرب او دولة اولاد امحمد الفاسي، خصوصا، انها تقع في خط سير القوافل القادمة من بلاد شنقيط والمغرب الأقصى القاصدة للمشرق العربي. حتى وقت قريب، اي بداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت قراءة القران وكتابته في على اللوح تعتمد الخط المغربي برواية ورش.
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك