حزن السماء
جميلة الميهوب
كنت مصدومة، خائفة، مرعوبة.. تائهة مثل ورقة في مهب الريح… ضعيفة رقيقة وهشة مثل أوراق الشجر التي كانت تغطي الأرض، والتي لا تملك شيئًا لمنعي ومنع العابرين من الدوس عليها وزيادة تفتيتها.
أمشي، وأمشي، وأمشي… لا أملك من نفسي شيئًا لمنعها من المشي، والمشي، والمشي…
أوقفني سياج حجري، يتجاوز ارتفاعه المتر بقليل؛ وقفت لبرهة غير مدركة شيئاً مما حولي، قبل أن أدرك أن السياج المبني على الصخور الضخمة, هو نهايةُ جسر مشاة صخري ضيق طويل، يخترق جزءًا من المحيط؛ قبل أن أرتمي عليه بكل ثقلي، مغمضة عينَي، مستندة بذراعيّ، متكئة برأسي على نهايته المسطحة الباردة، بوهن شديد أحاول جمع شتات نفسي التائهة.
حاولت البقاء مغمضة العينَين أطول فترة ممكنة، لكن لفحة الريح الباردة القوية أبت ذلك.
*
غول ضخم، وحش مخيف أمامي، لونه موغل في الرماد، يشبه الظلام، هدير أمواجه البعيدة العالية المتلاطمة يُرعب النفس ويفتتها، رائحته كالعدم تشبه الموت.
*
ما أزال متكئة على السياج، الأمواج تضرب صخر الجسر… الأمواج تضرب الصخر بقليل من الرفق… الأمواج تضرب الصخر بلا رفق… الأمواج تضرب الصخر بقوة. تراجعت إلى الخلف قليلاً، مبتعدة عن السياج. شيئًا فشيئًا تعلو الأمواج وتعلو بقوة أكبر وأكبر، وبإصرار شديد لتضرب صخور الجسر من الأمام ومن الجانبين، هدير الموج يعلو ويعلو ويقوى ليدوّي في أذنَي.
التفتُّ إلى الوراء.. في تلك اللحظة فقط أدركت طول مسافة الجسر وأنها تبعد كثيراً عن الشاطئ. استدرت بالكامل وقد قررت الرجوع إلى الشاطئ. فقدت قليلاً من توازني، وقعت قبعتي الصوف الجميلة على أرضية الجسر، لم يتسنَ لي حتى أن أحاول التقاطها، ففي لمح البصر اختفت، وفي لمح البصر ابتلع المحيط الرمادي قبعتي الجميلة الملونة.
رائحة الموت تنتشر وتخيفني، حاولت الهرب، ركضت مسرعة، الأمواج تلاحقني، أركض وأركض وأركض؛ الموج يركض ويركض بقوة هائلة جبارة، يسبقني من الجانبين وينثر رذاذه، رذاذ الموت على وجهي، شعري وكل ملابسي، أركض وأركض وأصرخ بأعلى صوتي؛ يغيب صوتي ويختفي؛ لا يبقى إلا هدير الموج المُرعب.
*
شيء ما يشدني إلى قاع المحيط، شيء ما يشدني إلى قاع تملؤه جثثٌ مواراة بقماش أبيض لا يظهر منها شيء، شيء ما يشدّ جسدي الضعيف المنهك إلى ذلك القاع البارد الناصع البياض وأنا أصارع جاهدة.
ظلّ هذا الكابوس، مع رائحة الموت العالقة بجسدي، يخنقني منذ لحظة اختفاء قبعتي وطوال فترة علاجي.
*
رنّ جرس البيت معلنًا عن وصول المتطوع الذي سيقلّني إلى الـ “كانسر سنتر” للحصول على جرعة الكيماوي.
فتحت الباب، رجل أبيض ذو شعر أبيض يمدّ يده ويمسك بيدي ليأخذني إلى سيارته البيضاء، يساعدني على الجلوس ووضعِ حزام الأمان، ثم في الطريق يحدثني الرجل العسكري المتقاعد عن نفسه وعائلته قليلاً، قبل أن يسألني إن كنت لا أمانع في سماع أغنية لابنته. أهزّ رأسي موافقة وأنا في حقيقة الأمر لم أكن أرى أو أسمع إلا دقات المطر الأسود الغزير، كأن السماء تغسل أحزانها، تسكبها في قلبي.
لم نتبادل أي كلمة بعد ذلك، فقط تبادلنا مرات عديدة مناديل ورقية تبللها دموعي بمناديل جافة يعطيني إياها.
*
بعد أكثر من ست ساعات، كان جالساً يقرأ كتابًا عندما خرجت من الحجرة على كرسي متحرك، نهض عن كرسيه مسرعًا باتجاهي، والكتاب في جيب معطفه، انحنى على ركبته، وضع يده على ركبتي، وباليد الأخرى راح يكفكف دموعي بنفسه هذه المرة، قبل أن يصطحبني إلى السيارة وهو يردد “ستكونين بخير، جميلة… ستكونين بخير”.
*
في طريق عودتنا إلى البيت؛ لم يقترح عليَ سماع أغنية، فقط استمعنا لدقات المطر الأسود الغزير، في طريق عودتنا أدركت أن السماء سكبت شيئًا من حزنها في قلب ذلك الرجل، لم نتبادل أي كلمة، تبادلنا المناديل الورقية فقط، عندما وصلنا، فتح باب السيارة وأخذني من يدي إلى باب البيت. أردت أن أشكره قبل أن أدخل. ولكن، قبل أن أفعل ذلك ابتعد عني مسافة بسيطة، وبصوت يخنقه البكاء قال:
“جميلة، أنت تملكين أجمل وأقوى ابتسامة… ابتسامتك التي لم تختفِ للحظة اليوم× لن تختفي. لن تختفي أبدًا”.
بحركة من يده، وكأنه يخلع قبعته عن رأسه، انحنى وانصرف.