حبيبنا “الأمازوني” … أهلا بك في بلاد الحضارة !
سالم الهمالي
تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر “إنسان” يعيش وحيدا مع الحيوانات والأشجار في غابات الأمازون البرازيلية لمدة طويلة، وأشارت إلى أنه من أصول ليبية، ضاعت أوراقه الثبوتية وما معه من أموال خلال تجواله في تلك البلاد ولم يجد مأوى مع البشر فاضطر إلى دخول الغابة.
الأخبار أضافت أن السفارة الليبية بتلك البلاد في سابقة قل نظيرها تواصلت معه، وهي بصدد تسهيل رجوعه إلى بلاده ليعيش حياته الطبيعية في مجتمعه الليبي.
الصورة المتداولة مع الخبر فيها ملامح الشخصية الليبية الحالية، ولا أظنه سيجد صعوبة في التعايش مع المجتمع الذي فارقه قبل ما يقرب من العقدين من الزمان. نظرة عينيه ولحيته الطويلة توحي بأنه متفاعل نفسيا ومتواصل روحيا مع التطور الذي شهدته البلاد خلال هذه المدة.
يظل السؤال الآتي:
– لماذا ترك النعيم الأرضي الى حياة الغابة، وكيف سيجد المجتمع بعد هذا التطور الرهيب؟!
لا أملك إجابة عن هذا السؤال، لكن هناك ما يكفي من قصص التراث الليبي بما يدل على جانب مهم من “الشخصية الليبية” وكيفية تعاملها مع مثل هذه المواقف.
تقول إحداها إن مواطنا ليبيا عاش على هامش المجتمع الليبي لسنين، لا أحد يعيره اهتماما أكثر من تعييره بفقدانه البصر بإحدى عينيه فأسموه (لّعور)، حتى ضاق بهم وبتلك التسمية فقرر أن يهجر بلده إلى أرض الله الواسعة، واختار مصر لتكون وجهته؛ فاستقبلوه بكلام جميل يسلب العقل وتطرب له الأذن ويرتاح معه الخاطر، يقولون له:
– ازّيك يا باشا .. تفضل يا معلم .. إنت تامر يا سيدي!
اعتاد عيشتهم وارتفعت معنوياته وأصبح يشعر أنه من طائفة البشر بعد أن شك في ذلك عندما كان هدفا للتهكم والاستهتار والاستهزاء من أهله وبني عمومته. طالت المدة واشتد حنينه إلى زيارة أهله وبلده، إلا أنه تردد عن ذلك كلما تذكر كلماتهم، مع الوقت خمّن أنهم نسوا تلك الكلمات الجارحة، توكل على الله وركب أول تاكسي إلى الحدود الليبية .. عند البوابة وجد زحام كالمعتاد وطوابير على شكل دوائر حلزونية لا تعرف أولها من آخرها، وهو في حيرته يفكر في أيهما ينتظم، صعقته كلمات مجلجلة مزلزلة من قائم على البوابة:
– خُش للطابور يا لّعور
أما الثانية؛ أرويها لكم كما سمعتها وأطلب منكم المعذرة مسبقا ففيها كلمات تخرج عن المألوف لكن السياق يجبرني على سردها.
أخينا كان حظه بائساً، عندما خرجت منه ريح (ضرطة) عافاكم الله وهو في مجمع بصوت سمعه كل الحضور، وبدل أن يحولوا عنه أنظارهم ويصموا آذانهم وينشغلوا في حديث غيره، تسلطت عليه عيونهم وألسنتهم تلذعه بالسم الزعاف: أنت صاحب (الضرطة) .. نوض اطلع يا ضرّاط!
خرج من عندهم حزينا مهموما كسير الخاطر، فما ذنبه إذا غلبته (ضرطة) لم يستطع كبحها؟!
نسوا اسمه وأبدلوه بِـ”الضرّاط” .. أينما حل أو قصد وجد في استقباله جموع لا تناديه إلا بها، حتى ضاق ذرعا وقرر أن يهاجر إلى تونس، وجد فيها رزقا وكوّن عائلة وعاش حتى المشيب واقترب الأجل، فَعّن له أن يرجع إلى أهله وبلده لعله يقضي أيامه الأخيرة معهم، فبالتأكيد أنهم نسوا قصة (الضرطة) … ألا يكفيهم خمسون عاما من التغرب عنهم ؟!
وصل المطار (القصة زمان أيّام المطارات مفتوحة)، وركب التاكسي إلى قريته يُمنِّي النفس بالأقارب والأحباب الذين سيغمرونه بالأحضان والعواطف الجياشة ..
وجد الدنيا تغيرت، مبان تبدو حديثة ووجوه لما يألفها، شباب اُنجبوا بعد رحيله وها هم رجال بأولادهم، لم يتعرفوا عليه ولا لوم عليهم فهم لم يروه، فاضطر أن يذكر اسمه كاملا ويذكر بعض من يعرفهم حتى يتعرفوا عليه … وهو يواصل حديثة انبرى أحدهم بصوت عالي .. عرفتك عرفتك!
– إنت عمي فلان وإلا لا ؟! … وينك من هاذيك (الضرطة) ما رآك حد؟!
صعق بما سمع، فحتى بعد أن مات كل من يعرفهم ويعرفونه لم يتركوه، وأورثوا تلك الحكاية لمن بعدهم؟!
أهلا بك حبيبنا الأمازوني .. وينك من هاذيك ……؟!