حاضنة سياسية
منصور بوشناف
رغم كل الادعاءات بوجود حاضنة اجتماعية لداعش بليبيا، إلا أن تلك الادعاءات ثبت زيفها، فلم تظهر المدن ولا القبائل الليبية أي تعاطف ولا ارتباط بهذا التنظيم، وظلت صورة التنظيم سيئة ومنفرة و لا قبولاً اجتماعيا لها.
كانت الأطراف المتحاربة بليبيا قد ظلت تلقي بجريمة وجود داعش وتغولها على خصمها السياسي، فلقد ظل أنصار فبراير يرددون “أن داعش صنيعة أنصار النظام السابق ” وظهر مصطلح “ازلامو داعش” إلا أنهم لم يقدموا نموذجا واحدا لذلك “الازلامو داعش” قتلى أو أسرى من قيادات التنظيم في ليبيا يتبعون النظام السابق، بل إن البعض من قيادات التنظيم كانوا معروفين كثوار فبراريين، ليسقط ذلك التوصيف دونما عناء .
أنصار النظام السابق ظلوا يصرون على أن أنصار فبراير في غالبهم متطرفون دينيون “اخوان وأنصار ودواعش” وأنهم هم حاضنة داعش، لتثبت الأيام عدم دقة هذا التوصيف ومحاربة غالبية الفبراريين للتنظيم لا يمكن نكرانها، ليظهر للجميع أن داعش ليس لفبراير و لا لسبتمر، بل هو عدو للجميع ولا فضل لأي منهم على الآخر بالنسبة له إلا بموالاته للتنظيم والانضمام له.
المجتمع الليبي بمختلف قبائله ومدنه وقراه لم يتقبل أفكار التنظيم ولا ممارساته، بل ظل يراه خطرا أجنبيا يتهدد البلاد والعباد، مما جعل المنتمين من الليبين له قليلين للغاية، وظل تنظيم أجانب جأوا لليبيا كغزاة أو “كفاتحين”.
ولكن ما الذي جعل التنظيم قادرا على التغلغل في ليبيا، بل والاستيلاء على الأراضي وإعلان الإمارات والاستقرار وتطبيق نظمه، دونما ردة فعل “سوى بعض الصراخ الإعلامي” بل والدفاع من بعض النخب والأطراف بأنهم أبناؤنا الاتقياء الورعون ووصفهم بالثوار الصادقين.
“داعش” تواجد في ليبيا وسيطر وتمكن من زمام الأمور في بعض المدن والمناطق لظروف سياسية ” فوقية” فلم تكن هناك أي حاضنة اجتماعية للتنظيم، وحتى التعاطف الذي أبداه البعض “من مختلف الأطراف” معه لم يكن إلا محاولة لاستخدامه كسلاح قد ينهي الطرف الآخر أو ينهكه على أقل تقدير.
والتنظيم أدرك ذلك منذ البداية وعمل علي، ووظف الخلافات والانشقاقات التي نتجت عن الحرب والصراعات السياسية لتوفير بيئة ومكان أمن له، للتأسيس والتمكين.
السؤال الهام الذي يطرح نفسه “لماذا سرت كانت الإشارة؟ على رأي سيدي عبد السلام الأسمر؟ ثم لماذا صبراته؟ ولماذا درنة؟ وأخيرا لماذا “وديان وشعاب ورفلة؟” التي تسميها البيانات العسكرية “بجنوب سرت”.ألا تبدو سرت عازلة بين برقة وطرابلس؟ ألا تبدو صبراته عازلة بين العاصمة والحدود والوطية أيضا؟ ألا تبدو درنة عازلة بين طبرق وبنغازي وقوة مشاغلة للجبل الأخضر؟ وأخيرا ألا تبدو شعاب ووديان ورفلة وحتى ترهونة وزليطن ملاذا ممتازا لتهديد استقرار غرب ليبيا وجنوبها الغربي؟
ثمة كيانات أنتجتها الحروب والصراعات السياسية في العالم وخير مثال لها “منغوليا” وحتى النمسا، وهي كيانات تفصل بين الدول المتنازعة وتسمى في علوم السياسة ب “buffer state” أو “دولة عازلة” وتترك في الغالب كميدان مفترض للصراع وللحرب إن نشبت بين المتحاربين الذين تفصل بينهما وتدفع غالبا ثمن الحرب والصراع أكثر من المتحاربين إن وقعت الحرب.
في ليبيا وفر داعش نموذجا مناسبا للصراعات الليبية، والأهم أنه نموذج محارب وعدواني، فسرت تتوسط ليبيا وهي الحد الفاصل والموحد بين برقة وطرابلس عبر التاريخ، منذ أسطورة “الأخوة فليني” وحتى “محاربو الريح” من قبيلة البسيلي منذ أربعة آلاف عام وحتى حروب الموانيء النفطية، فبإمكان المستولي على سرت أن يوحد ليبيا وبإمكانه أن يقسمها ويجعلها سدا بين الأقاليم الليبية.
متحاربو ليبيا الآن رأوا في سرت سدا للحماية من العدو المتربص “كما تصوروا” في الإقليم الآخر، فلن يكون بإمكان جيوش الشرق أن تصل الغرب قبل أن ينهكها “داعش” هكذا خطط استرتيجيو غرب ليبيا، وجيوش الغرب لن تتمكن من وصول تراب برقة البيضاء قبل أن تواجه داعش، بالطبع كان كلا الطرفين يعرفان أن داعش أفعى لا يؤمن جنبها ولكنهما رأها نافعة في تلك الفترة.
الصراع السياسي الليبي الذي وصل للصراع المسلح كان ولا يزال هو الحاضنة الأساسية لداعش في ليبيا، فلسنا نرى حاضنة اجتماعية للتطرف في ليبيا، بل إن التطرف الليبي مصنع ومفبرك على أيدي تيارات سياسية ليبية متحاربة وبدعم إقليمي واضح، والدعم الإقليمي المناور بداعش، يعرف الليبيون أنه يستهدف خلق والحفاظ على كيانات شبيهة بداعش، تقسم البلاد لتظل مكبا لأرهابي الجيران الفارين من بلدانهم، وللمهاجرين غير الشرعين لأصدقاء ليبيا الأوروبيين، تلك حالة يريد الجيران والأصدقاء أن تستمر لعشر سنوات أخرى على الأقل.
مطامع الأشقاء والأصدقاء يمكن لليبيين أن ينهوها ببساطة، فقط لو أدركوا أن ثقب القارب الليبي بفؤوس يوفرها لهم الأصدقاء ويمولها الأشقاء ستغرقهم جميعا ومعا وبدون استثناء في بحر الموت والجوع والذل، ليكون الاحتلال حلما بعيد المنال.