حاتم علي من التغريبة الفلسطينية إلى التغريبة السورية
سالم العوكلي
حين كان المخرج حاتم علي يعمل مع السيناريست الفلسطيني على المسلسل الملحمي (التغريبة الفلسطينية)، وحين كان يخرج مشاهد تراجيدية للنزوح الفلسطيني الجماعي، ربما لم يفكر أنه بعد سنوات قليلة ستتكرر هذه المشاهد لشعبه السوري وله هو شخصيا، وأن الخيمة التي جعلها ايقونة هذا العمل وأسطورته التي تنمو بإطراد وتتسع حدودها ستكون ملاذ ملايين السوريين وهم يعبرون حدود وطنهم من أجل النجاة بأرواحهم. الأسباب والأمكنة والزمن كلها تختلف لكن ما يؤلف بين هذه المصائر هي رسالة مسلسل التغريبة الفلسطينية التي تقول أن القمع السياسي الداخلي هو ما يفتح حدود الكيان لغزو خارجي تصبح فيه الأرض ملعبا لكل القوى الكبرى والصغرى، وإن الهوس بتجريد المفاهيم وفصلها عن الكائن الإنساني مثل الوطن أو الحرية أو المقاومة أو الأرض أو الثورة هي ما تحيل الوطن في النهاية إلى فكرة تجريدية مهيمنة تفضي بالمحتوى البشري إلى النزوح منها، طوعا أو كرها.
توفي المخرج الكبير حاتم علي وحيدا في غرفة بفندق في القاهرة، وقبل ذلك بسنوات تناول بكل عدته الإخراجية المميزة إمكانية هذا المصير حين تجتاح عتبات بيوتنا قوة طاغية محلية أو خارجية أو قادمة من الأساطير، وهذه قراءة لما عالجه حاتم علي ووليد سيف دراميا لكل هذه الثيمات التي تكشف وهم الأوطان حين تختزل في السلطة المهيمنة، من الإقطاع الاجتماعي الطبقي إلى الإقطاع السياسي، وتظل نافذة حاتم علي اللي يفتحها في قلب كل كابوس هي مقاومة الطغيان بكل أنواعه والانتصار للكائن الإنساني في وجه كل ما يجعل منه أداة أو رقما.
ضوء في آخر النفق يقف فيه رشدي حاملاً بندقية أبيه بعد أن مزق رسالة البعثة الدراسية إلى الخارج وقرر أن يبقى. هذا هو المشهد الأخير من العمل الدرامي الضخم التغريبة الفلسطينية للمخرج حاتم علي، وهو مشهد يطرح رؤيا كاتبه وليد سيف الذي عاد إلى هذه المرحلة بذاكرته الطفلية وخبرته الثقافية والفكرية ليفككها ويحاول تسريب أسئلته الجوهرية، متسائلاً من خلال هذا العمل : أين خسرنا ولماذا ؟ عبر رصد حياة أسرة فلسطينية فلاحة تعيش في قرية معزولة بكل آمالها وتناقضاتها، والتي من خلالها تنعكس معظم الأحداث الكبيرة التي مرت بالمنطقة ، وإذا كانت هذه القرية ضحية مؤامرة كبرى حولتها إلى خراب فإن وليد سيف لم يغفل معالجة أزمات هذه المجتمع الداخلية التي أسهمت بشكل أو آخر في الوصول إلى هذه النتيجة. كان مفهوم السلطة في أصغر تجلياتها وما يترتب عنها من أزمات وجودية إحدى الثيمات التي استبطنها هذا العمل ، وكان الاضطهاد الداخلي مقدمة لانتهاك هذا المجتمع باضطهاد خارجي. البيك الذي مَثّل السلطة الإقطاعية الأولى، والمختار الذي يختصر الوطن في نفوذه الاجتماعي وأملاكه، وصراع المصالح والنفوذ الذي تسرب إلى الثورة الفلسطينية فتشوهت بأزمات المكان وصراعاته، مآزق عبّر عنها البناء الدرامي لشخصيات العمل التي يقودها قدرها التاريخي في أرض تتقلص تحت أقدامها .. تتوقف الثورة وتبقى آثارها داخل النفوس المفعمة بالاستئناس للمكان واللحظة، بينما المحتل ينتهز الوقت ليبني مؤسساته ويخطط لمشروعه، وفي النهاية ستكون المواجهة بين الغزو المخطط له بحنكة من قبل القوى الكبرى وبين المقاومة الفطرية الارتجالية معروفة النهاية. يتجذر الفلاح الفلسطيني في الأرض بشكل عبرت عنه مفردات العمل من الموسيقى إلى الملابس والمعمار التي كانت تعكس هذه العلاقة البيولوجية بين الفلسطيني والأرض، فتظهر كل المؤثرات السمعية والبصرية وكأنها طالعة من التراب مثل أشجار الزيتون الشاربة جذورها شجن الربابة. يُقتلع هؤلاء المضرجون بتراب الضيعة من جذورهم ليبنوا خيامهم بعيداً عن الخطر الذي سوف لن يعرف حدوداً .. تصير للخيمة حدود تصبح الخيمة هوية ، وبشكل فني حاذق سيرصد حاتم على المخيم وهو ينمو حجرا حجرا، فتتحول أطراف الخيمة إلى جدران، وعلى الجدران تبدأ كتابة أحلام الفلسطيني بالعودة. تغدو رائحة برتقال الضيعة الهوية المفقودة وهاجس الحنين إلى الرحم ، ويغدو المذياع الذي يبث رسائل الغائبين الشفهية هو الوطن البديل ، وفي هكذا ظروف حيث لا أرض ولا مزارع وحيث الأزقة بين البيوت تضيق يغدو تعليم الأبناء هو الحلم الذي يراود الآباء .. يحل التفاخر بالشهادات العليا محل التفاخر بالإقطاعيات .. شخصيات المخيم تنمو معه بتناقضاتها .. (علي) الشخصية المتعلمة القلقة التي تمثل انتلجنسيا القرية والمخيم والمنطقة بأكملها يتسرب إليها تشويش اللحظة التاريخية الغامضة .. الشخصية المثقفة المرتبطة بالكلمات والمعاجم التي تبحث عن نصفها الآخر في شخصية حسن المغامرة المرتبطة بالأرض والصخر والريح .. شخصية مسعود الانتهازية، الضحية التي ترث ميراث جلاها. شخصية أبوعايد نموذج السلطة السياسية والإقطاعية التي تدافع عن وهم هذه المكتسبات في خيمة تلعب بها الريح والعواصف .. شخصية الأم الفلسطينية ( التي جسدتها جولييت عواد بشكل رائع ) يتفتت قلبها في خضم هذا الصراع الذي تقاومه بغريزة الأم وبحضنها المفتوح لكل الأوجاع .. كان الحب البريء والحب المؤثم في هذا المجتمع الصغير إحدى الثيمات التي عالجها كاتب يدرك أن أقسى الظروف الإنسانية لا تخلو من المرح والحب والحلم ، وتمر الأحداث الكبيرة على هذا المجتمع لتترك ظلالها وآثارها التي لا تنمحي على كل الشخصيات ، بينما من خلال حوار المثقفين يسرب الكاتب آراءه في كل ما حدث عبر قراءة نقدية جديدة للأزمة من داخلها، وعبر تجليها الاجتماعي والنفسي والثقافي. ثمة نص كتبه وليد سيف ولكن ثمة نصوص أخرى موازية اشتغل عليها حاتم علي بفنية عالية. كانت موسيقى طاهر مامللي الدرامية بقيادة آلة الربابة نصاً موازياً، وكانت الكاميرا التي ترصد بذكاء تفاصيل اللعبة عبر مشاهد صامتة تقول الكثير، تُكثف الملامح لحظة الرحيل وارتعاش الأصابع وهي تتسلم مؤونة الأنروا، في الجريدة التي يمسح علي بها وجهه من صابون الحلاقة، بينما قامة أبوصالح المصر على البقاء في الأرض تظهر عملاقة كجبل وسط جلاديه .. وعبر كل ذلك كان المخرج حاتم علي يمسك بخيوط عمله الملحمي بحنكة فنية راعت كل التفاصيل الدقيقة من اللهجات إلى الملابس إلى الإيماءات ، عبر عمل يسعى إلى الإقناع الفني الذي يحترم المشاهد ونبل القضية، لأنه مهما كانت القضية المطروحة عظيمة أو مقدسة لن تغفر أي إخفاق فني او جمالي.
يأتي التهجير الثاني من المخيم ليطرح نقطة جوهرية وهي العلاقة التي تكرست في الذهنية العربية عموما والفلسطينة في لحظة اختيارها الصعب بين الأرض والعرض، حيث حالة التجريد القصوى للوطن في مفهوم العرض الذي يفر به العربي تاركاً أرضه، وهذه المفاهيم المجردة التي يبنى عليها العقل تحيل الذهن الشعبي إلى منظومة لغوية من الشعارات واللافت في مواجهة تاريخ لغته مختلفة تكتبها الإرادة وليس الشعارت ولا أوهام الماضي. الوهم الوسادة ـ التي تحملها أم سالم المجنونة كبديل لابنها المفقودـ يجد صداه عند رشدي الذي فقد أمه، فيقترب من وجدان هذه المرأة بقدر ما يؤكد وهمها ويتعاطف معه ، وهو الوهم الذي يكف بمجرد أن يلتقي مع أمه .. تموت المرأة في لحظة تحررها من هذا الوهم ورأسها على الوسادة بينما يذهب رشدي إلى بندقية أبيه المخبأة في الكهف ويقف في الضوء متشبثاً بها ..إضافة إلى ذلك قدم هذا العمل جزئية أخرى مهمة نفتقدها في معظم أعمالنا الدرامية وهي حداثة الخطاب الدرامي ، فهو لم يطل المكوث عند الأحداث المفصلية والتعامل معها بشكل سياسي مباشر، لكنه تابع فعلها في الملامح الحائرة والمتفائلة بحذر ، وفي الوقت نفسه لم يكن أسير أي تعامل عاطفي مع عمل حساس مازالت تحيط به العديد من الالتباسات التاريخية، خصوصاً وهو عمل يتعامل مع قضية مازالت قائمة وشائكة تتغير فيها الخارطة يوميا، ولكن ما كان يهم الكاتب هو كيف وصلنا إلى هذه النهاية المحقونة باقتراح بداية أخرى طرحها العمل عبر أيقونة فلسفية مثلت المشهد الأخير، وهي الضوء الذي يلوح في آخر النفق، وهي أطروحة لا تخلو من مفهوم ما لليوتوبيا التي عاشها العقل الإنساني الحالم بالخلاص .. لكن العمل وضع في قلب هذا الضوء أيقونته الخاصة التي تفسر هذا الضوء وتنقله من حقله اليوتوبي إلى التاريخي، ليفضي العمل إلى مرسله المقتضب :البقاء في الأرض والمقاومة هو الضوء الذي يلوح في آخر النفق .