«جلال العظم».. المثقف والرأي العام
رضوان السيد
عندما توفي أستاذ الفلسفة السوري المعروف قبل أسابيع بديار الغربة، ما تذكّر الناسُ منه وعنه غير تأييده في الأعوام الخمسة الأخيرة للثورة السورية، وحملاته الشعواء على الشاعر والكاتب السوري أدونيس، بسبب دعمه لنظام الأسد، و«العظم» ينسب ذلك للأصول الطائفية لأدونيس وكراهيته للإسلام والجمهور.
يذكر أبناء جيلنا للعظم مواقف مثيرة اتخذها في مناسباتٍ عدةٍ خلال خمسين عاماً الأخيرة. وأول هذه المواقف وأقدمها كتاباه «نقد الفكر الديني»، و«نقد فكر الهزيمة» (1968و 1969). كان العظم وقتها مدرِّساً شاباً للفلسفة الحديثة بالجامعة الأميركية في بيروت. ويظنُّ المتابعون للأحداث الثقافية والفكرية لتلك الفترة أنه بسبب «نقد الفكر الديني»، اضطرَّ لمغادرة الجامعة الأميركية ببيروت، ومضى للتدريس بجامعة دمشق، حيث ظلَّ هناك حتى تقاعد. أما الواقع فإنه اضطُرّ للمغادرة بسبب خصومته الفكرية مع شارل مالك، أستاذ الفلسفة بالجامعة الأميركية حينذاك أيضاً. كان العظم يسارياً ماركسياً متحمساً، وقد ضاق ذرعاً باللاهوتية اليمينية الباردة لشارل مالك، الذي كان يُعتبر أحد أساطين الفكر اللبناني المحافظ. وقد حمل عليه العظم باعتباره رجعياً معادياً للتقدم. وعندما طال الجدال بينهما وتوقف مالك عن الإجابة عليه، توقفت الجامعة أيضاً عن تجديد عقده. لكنه حينذاك كان قد اصطدم بمحرَّمين هما: رجال الدين الإسلامي ومؤسساته، وجمال عبد الناصر. فالعظم ما اشتغل على نقد الدين أو أفكاره الأساسية، بل على استخداماته بطرائق شعبوية اعتبرها العظم بين أسباب الهزيمة لما تشير إليه من تخلُّفٍ فكري، وانفصام العلائق بالحداثة العقلانية. وما اعتبر العظم هذه الطريقة في التفكير الديني سبباً أوحد للهزيمة، بل مضى رأساً للأسباب السياسية والثقافية التي حملها الفكر القومي والفكر التقدمي للأنظمة العسكرية العربية. فهو شأن اليساريين الجدد آنذاك كان يعتبر الأنظمة العسكرية العربية من نتاج البورجوازيات الصغيرة المعروفة بالتذبذُب وباستخدام شتى الوسائل للخلود في السلطة. لذا ما كان غريباً أنّ الهزيمة نزلت بها وبجيوشها خلال ساعات عام 1967. وقد تجنب النظامان في مصر وسوريا الاصطدام به، وإنما جادله مثقفوهما باعتباره عدواً للقومية، وأرستقراطي النزعة، رغم ماركسيته المدعاة. بيد أنّ دار الفتوى بلبنان وبعض المشايخ المصريين ما اكتفوا بتحبير المقالات ضدَّه، بل اشتكته دار الفتوى أمام المحاكم بتهمتي ازدراء الدين، وإثارة النعرات. وقد ظلّت الدعوى أكثر من عامين، لكنّ المحكمة برأت الكتاب والكاتب، فأقبل بشير الداعوق صاحب الدار الناشرة للكتاب (دار الطليعة) على طبع الكتاب عدة مرات مع وقائع الدعوى والمرافعات، بحيث صارت «الرجعية الدينية» التي حرَّكت الدعوى ضد العظم هي علةُ الهزيمة بالفعل!
وخمدت الضجة من حول العظم لسنواتٍ عشر أو أقلّ، قبل أن يثير الرجل ضجةً من حوله في الحملة على كتاب إدوارد سعيد الأشهر: «الاستشراق» (1977). سمَّى العظم حملته أو رسالته ضد كتاب سعيد: الاستشراق معكوساً! وحجته أنّ سعيداً يثير واعياً أو غير واعٍ حملةً شاملةً ضدَّ الغرب الذي يعتبره كله استعمارياً وإمبريالياً، بحيث يصبُّ ذلك في صالح السُذَّج والرجعيين من اليسار واليمين، ويدخل في الحرب الثقافية الباردة. ويترتب على ذلك احتقارٌ لكل علمٍ وبحثٍ من جانب أنصاف المتعلمين بحجة أنه آتٍ من الغرب. وهكذا فهو استشراقٌ معكوس، بمعنى أنه يغذّي نرجسيات ووجوه كراهية ورضا غير مبرَّر عن النفس لدى العرب والمسلمين.
أما الواقعة الأخرى التي أثار فيها العظم غباراً كثيراً فهي واقعة سلمان رشدي عام 1987. فعندما أصدر «رشدي» كتابه «آيات شيطانية»، كثرت إدانات الجمعيات الإسلامية في الغرب له، وأفتى الخميني بقتله. لكنّ العظم رأى في ذلك رجعيةً دينيةً وسوء فهمٍ لحرية التعبير، وحتى لتأويلات النصوص النقدية. وهكذا كتب كتاباً عن «ذهنية التحريم»، دافع فيه عن رواية رشدي، وعرض تأويلاً تحررياً وتنويرياً لها.
وما قرأتُ في العقدين الأخيرين للعظم غير مقالاتٍ قليلة. وقد رأيتُه ببرلين قبل سنواتٍ وكان مريضاً، لكنه كان قد بدأ حملته على الحكم السوري وعلى أدونيس. قال لأدونيس إنّ دين الشعب السوري لا يعنيه، بل يعنيه تغوُّلُ النظام عليه. وبدلاً من أن يتخذ مثقفٌ سوري معروفٌ مثله موقفاً من النظام القاتل، وقف إلى جانب الأسد بحجة أن دوافع الثورة عليه دينية، وهو لن يقف إلى جانب متظاهرين يخرجون من المساجد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الاتحاد” الإماراتية