ثورة 17 فبراير… محطات فارقة في رحلة الانفكاك من عباءة العقيد
كانت كل الشواهد تدل على أن الحدث لن يكون عابراً بل سيكون استثنائياً وفارقاً في تاريخ الدولة الليبية منذ أن انطلقت الشرارة الأولى المطالبة بالتغيير في تونس المجاورة ثم مصر، فكان تأثر ليبيا بالهزات التي ضربت البلدين الجارين حتمياً في ظل المنظومات الأمنية المترابطة بين الأنظمة في المنطقة وتشابه الدوافع والأسباب الموجبة للتغيير .
بدأت القصة في ليبيا بدعوات للتظاهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث صار الجميع يهمس بتاريخ 17 فبراير دون أن تتبنى جهة رسمية مسؤولية الدعوة أو تحدد إطار وسقف المطالب، حيث بدا كل شيء عفوياً بل كان التنبؤ بمستوى التفاعل الشعبي مجهولاً، إلا فرضيات تعامل النظام مع أي صوت احتجاجي مطالب بالتغيير كان محسوماً نظراً للتاريخ القمعي الحافل وغياب منابر التعبير في دولة العقيد الشمولية.
اليوم 15 من فبراير عام 2011، المكان مدينة البيضاء: سقوط ضحايا مدنيين في مواجهة مع قوات الأمن، تزامناً مع مظاهرات محدودة العدد في مدينة بنغازي تطالب صراحة عبر هتافاتها بإسقاط النظام وتدعو سكان المدينة للخروج ورفع شعار التغيير، وهو ما استجاب له الأهالي الذين هاجموا مقار أمنية مع ظهور شائعات عن انتشار عناصر مرتزقة موالين للنظام داخل المدينة، يعتمرون قبعات صفراء، في تلك اللحظات كان المشهد يتضح شيئاً فشيئاً والدعوات أصبحت أكثر جرأة عقب انكسار حاجز الخوف وتحوّل معسكر الفضيل أبو عمر حامية النظام المنيعة في بنغازي لأيقونة تحاكي حصن الباستيل الفرنسي الشهير، ليتبادل أبناء المدينة الرصاص الحي ويتوالى سقوط الضحايا قبل أن يقتحم الأهالي المعسكر بعد أربعة أيام من الاشتباكات.
22 فبراير: القذافي يُوجه خطاباً شديد اللهجة من باب العزيزية يُحذر فيه الثوار والأصوات المناهضة لحكمه بحرب يدعو لها الملايين، متعهداً بملاحقتهم في كل “بيت ودار وزنقة”، حتى تطهير البلاد منهم وهو يتصفح نصوص قانون العقوبات الليبي التي تُجرّم التظاهر والاعتصام وكافة أشكال التعبير عن الرأي، ليأخذ الخطاب أبعاداً محلية ودولية مستنكرة ويجذب تعاطفاً واسعاً مع القضية الليبية.
27 فبراير: بسقوط معسكر الفضيل أبو عمر إنهار النظام وأدواته تماماً في مناطق شرق البلاد، وتلقفت مدن في الغرب شرارة الثورة التي تركزت عملياً في مدن الزاوية والزنتان ومصراتة بعد أن عمت التظاهرات المتضامنة مع مدينة بنغازي معظم الأرجاء، وبحثت الثورة عن رأس لها ليتم تشكيل مجلس انتقالي يوم 27 فبراير يضم ممثلين عن كافة المناطق الليبية، لتتوافق “المدن المحررة” على ترأس وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل للمجلس والذي انشق عن النظام، بينما تم اختيار نقيب المحاميين عبد الحفيظ غوقة نائباً لرئيس المجلس وناطقاً رسمياً باسمه بالإضافة للجنة أزمة استبقت تشكيل مكتب تنفيذي بقيادة الراحل محمود جبريل.
على الأرض كانت كتائب القذافي تتحشد لدخول مدينة بنغازي واستعادة السيطرة على المقار الرسمية والأمنية التي فقدتها، لتأخذ الأزمة بُعداً دولياً مع عقد مجلس الأمن جلسة لبحث تداعيات الأزمة وتشكل نواة حلف دولي يدعو لمؤازرة الثوار، ويتخوف من ردات فعل انتقامية ومفرطة لقوات القذافي إذا ما مُكنت من مدينة بنغازي.
18 مارس 2011: اعتمد مجلس الأمن الدولي وبعد ثلاثة أيام من المفاوضات الشائكة، القرار 1973 والذي يجيز تنفيذ ضربات جوية ضد ليبيا لمنع نظام القذافي من استخدام الطيران ضد الثوار والمناطق المدنية، ويجيز القرار الذي تبناه مجلس الأمن بموافقة عشرة أصوات وامتناع خمسة عن التصويت، استعمال “كل التدابير الضرورية” لحماية المدنيين وفرض وقف لإطلاق النار على تشكيلات الجيش الليبي، حيث تم فرض منطقة حظر جوي لا يستثنى منها سوى الطلعات الإنسانية حصراً مع تحذير وزير الخارجية الفرنسي السابق “آلان جوبيه” من أنه ليس هناك الكثير من الوقت للتدخل، مشيراً إلى أن التدخل قد يكون خلال ساعات.
19مارس 2011: بدأ التصدي لرتل القذافي بقيام طياري قاعدة بنينا الجوية في بنغازي بتنفيذ غارات جوية لإيقاف الرتل الذي امتد طوله إلى مسافة طويلة، قبل أن يشن سلاح الجو الفرنسي في عملية “فجر الأوديسا” غارات أصابت الرتل مباشرة ودمرته وهو على أعتاب الدخول إلى بنغازي، ليُشكل الحدث العسكري ضربة قاصمة لكتائب القذافي، قبل أن يكمل الناتو على مدار أشهر مهمة تدمير الرادارات ومخازن السلاح ومعسكرات الجيش، في إطار تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1973 القاضي بفرض الحظر الجوي على ليبيا.
بعد الانكسار الكبير لقوات القذافي على أعتاب بنغازي اتجهت الأنظار صوب أماكن التوتر العسكري التي تركزت في مناطق الهلال النفطي، الذي شهد معارك كرّ وفر، بالإضافة لاحتدام المعارك في الزنتان ومناطق جبل نفوسة واشتداد الحصار على مدينة مصراتة، ليحافظ الوضع على جموده الميداني مع الاستنزاف الكبير لقوات النظام التي اتسعت دائرة العداء ضدها وواجهت مصاعب أمنية داخل العاصمة التي عدّت معقلاً حصيناً للنظام.
20 أغسطس: انطلقت عملية تحرير طرابلس مع سقوط أغلب مدن الجبل الغربي وإيصال كميات من السلاح والذخائر إلى ثوار الداخل في طرابلس، حيث شهدت المدينة اشتباكات محدودة مع قوات القذافي بالتزامن مع زحف قوات الثوار القادمين من الجبل، لتسقط طرابلس ويتم السيطرة على باب العزيزية معقل القذافي ورمز سطوته ويستمر النظام في الحفاظ على مدينتي بني وليد وسرت .
20 أكتوبر: أعلن مدير المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي محمود جبريل، مقتل القذافي رفقة نجله المعتصم في مدينة سرت عقب معارك ضارية شهدتها المدينة مع بقايا كتائب القذافي المتحصنة في المدينة، كما تحرك الثوار إلى مدينة بني وليد الذين أتموا السيطرة عليها ليسقط آخر معقل لنظام القذافي وتدخل البلاد في حقبة جديدة.
23 أكتوبر: أعلن رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل في بنغازي، وسط احتفالات رسمية وشعبية تحرير البلاد بالكامل من نظام معمر القذافي، مما يمهد الطريق لتشكيل حكومة انتقالية تكون خطوة أولى على طريق إرساء الديمقراطية واستعادة الاستقرار.
مراحل خالدة أرّخت لمسيرة شعب ناضل بكل مكوناته وشرائحه للإطاحة بنظام استحوذ على السلطة لـ 42 عاماً، وغابت خلال سنوات حكمه كل قنوات التعبير عن الرأي كما تجمدت التنمية وتدنت الخدمات وتورطت البلاد في نزاعات إقليمية ودولية استنزفت الثروات وفرضت العزلة الدولية، التي دفع ثمنها الشعب الليبي الذي يواصل مسيرته لصناعة التغيير رغم كل العوائق والمحن.