“ثورة” الليبيين.. ضحية “ثروتهم”
سالم العوكلي
انضمت ليبيا منذ بداية الانتفاضات العربية إلى مثلث الحراك المتمثل في تونس ومصر وليبيا، وعبر وسائل الإعلام كانت ليبيا ترد في هذا السياق الشمال إفريقي إلى أن انتقل إلى قارة آسيا ولحقت به اليمن ثم سوريا. ومع سقوط النظام اعتبرت الثورة الليبية ثورة كاملة رغم ما شابها من تدخل حلف الناتو بشكل مركز، وهو التدخل الذي بررته البيانات السياسية، العربية والدولية، وأجازته الفتاوى الدينية المرنة، بكون هذا النظام مجرم ويملك ترسانة أسلحة ضخمة ومن الممكن أن يبيد الشعب الليبي، أو بكون الضرورات تبيح المحظورات .
ولكن ما يعنيني في كل هذا كيف خرجت ليبيا من السياق الأول للحراك العربي المتمثل في دول جوارها لتصبح بعد عام من نهاية النظام الجذرية في سياق آخر؟
انتقلت من سياق الثورات الناجحة، أو الدول المستقرة بعد الانتفاضات، لتنضم إلى الدول التي استمرت معاناتها، بل تضاعفت، إلى سياق الدول التي تشهد حربا أهلية ، وما عادت تذكر سوى مع سوريا واليمن والعراق وأحيانا الصومال، حين يكون السياق صراعاً أهلياً أو دولة فاشلة أو تفكك للمجتمع أو قتل على الهوية أو تدخل أجندات أجنبية أو مصير غامض.
فهل كانت طبيعة النظام الحاكم في ليبيا الذي فرّغ الدولة من المؤسسات هي السبب؟ أم أن طبيعة الشعب التي يصفها الكثيرون بالميل الغريزي إلى العنف هو السبب؟ أم تدخل الناتو الذي لم يسجل له أي تدخل ناجح طيلة الحرب الباردة وبعده، هو السبب؟ أم أموال وأسلحة الخليج وتركيا التي تدفقت إلى دولة سائبة الحدود والمنافذ؟ أم اختلاف ليبيا عن مصر وتونس بكونها تملك ثروة نفطية هائلة وأموال مجمدة يسيل لها لعاب الداخل والخارج هو السبب؟ أم أن كل هذه الأسباب متضافرة وغيرها هي التي نقلت ليبيا من السياق التونسي المصري القريب منها إلى سياقات أخرى بعيدة ومختلفة عنها بنيويا واجتماعيا وتاريخيا.
عندما كان يحذر البعض ، بداية الانقسام الليبي الذي قاده المؤتمر الوطني وحكوماته بحنكة من سيناريو العراق الذي انتهي رأس نظامه بطريقة مشابهة لما حدث في ليبيا، كان المتفائلون يقولون ليبيا ليست العراق، باعتبار أن العراق عانت على مر التاريخ من حروب طائفية تستعيد طاقتها من جديد بعد نهاية نظام حكمها المركزي، وأن العراق محاطة بدول متناقضة المصالح وتنقل صراعها إلى أرض العراق الخالية من حكم قوي، إيران وتركيا والسعودية، أما ليبيا فجوارها العربي ذاهب في نفس السياق التحرري ويهمه استقرار ليبيا . وعندما كان يحذر البعض من صوملة ليبيا أو من سيناريو الصومال، كان المتفائلون يبتسمون مرة أخرى ويؤكدون أن ليبيا ليست الصومال، فالصومال دولة فقيرة لا موارد اقتصادية لها ومحيطها معاد وطريقها إلى الدولة الفاشلة قصير ومفروش .
وما حدث في النهاية، ورغم أن ليبيا تحتل جغرافيا شاسعة بين مصر وتونس، وثورتها كاملة بعكس اليمن انتهى فيها الزخم الثوري إلى نصف ثورة، وبرغم ما تتمتع به من ثروة نفطية واستثمارات خارجية ومجنب تجنبها أي انهيار اقتصادي، وبرغم تجانس مجتمعها إلى حد كبير أو ما يسميه المتفائلون بأن ليبيا نسيج اجتماعي واحد، برغم كل ذلك لحقت ليبيا بسياق الدول المضطربة والمنقسمة والفاشلة، وانسحبت بإرادتها أو بدونها من السياق الناجح للربيع العربي، وهو سياق لا يعاني الآن إلا من الظروف الاقتصادية الصعبة، وهي الظروف التي من المفترض أن لا تعاني منها ليبيا لأن اقتصادها في جوف أرضها وليس معتمدا على السياحة أو الاستثمار أو غيرها من الموارد التي تتأثر عادة بهزات سياسية واجتماعية بهذا الحجم .
لكن ألا يمكن أن يكون هذا الاقتصاد أو المورد الضخم في جوف الأرض هو السبب في الأزمة بدل أن يكون حاميا منها؟
هل فعلا كان النفط هو سبب معاناة الليبيين بدل أن يكون سبب رفاههم واستقرارهم لتحوله إدارته البدائية السيئة وثقافة الفساد المتفشية من عقود إلى نقمة تاريخية بدل أن يكون نعمة .
هذا النفط الذي كان وراء إطالة عمر النظام السابق لأربعة عقود عبر استخدامه في وسائل القمع، وتحويله إلى اقتصاد ريعي، وعبر شراء الذمم بأمواله في الداخل والخارج ، ونحن نعرف أن القذافي لولا هذه الثروة النفطية التي خدم بها سلطته المطلقة لما استطاع الاستمرار في الحكم ، ولما أصبحت له هذه الشهرة العالمية ووسائل ضغطه الإقليمية والدولية.
وعندما انتهى النظام تاركا هذا الميراث الضخم من الأموال والنفوذ، تحولت الثورة إلى صراع على هذه الثروة الشاغرة التي لا صاحب لها، وبمجرد نهاية النظام بدأت تتحول إلى هبات توزع على الناس من قبل المجلس الانتقالي، ومن قبل جماعة الأخوان المهيمنة على مفاصل الدولة من أجل إلهاء الناس حتى تنتهي آليات التمكين ، مثلما فعل القذافي في بداية الانقلاب، حيث جعل أموال النفط أداته لكسب التأييد حتى تمكن من السلطة .
كان الجميع يجمع الإجراءات ويركض خلف تلك الهبات التي ارتبطت باسم (فلوس عبدالجليل) ونسوا الميادين وأهداف فبراير، ثم بدأت لعبة زيادة علاوة العائلة أضعاف، وركض الناس من جديد خلفها، إضافة إلى الياغمة التي صاحبت ملف الجرحى لتشهد أكبر حالة فساد في تاريخنا، واستمرت الوعود بزيادة المرتبات، وإرجاع الدولار إلى سعره في السبعينيات، وقروض الشباب وغيرها، إلى أن تم التمكين عبر السيطرة على مفاصل السلطة التشريعية والتنفيذية من خلال المؤتمر الوطني ووزرائه ووكلاء وزاراته، وعلى مفاصل السلطة المسلحة عبر إنشاء ميليشيات الدروع وحرس الحدود والحرس الوطني الذي صرفت عليها المليارات ، لتصل الأمور في النهاية إلى أرض مدججة بالسلاح تتقاسمها العصابات، وإلى إفلاس شامل لليبيين في عدم وجود سيولة، وإلى أزمة رغيف الخبز والوقود وماء الشرب. والمقارنة بين مرحلة ما بعد سقوط النظام إلى نهاية 2013 ، ومرحلة ما بعد 2014 إلى الآن، تذكرنا بالمقارنة بين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وفي الحالتين حين تتمكن السلطة ستعامل الرعية وفق المثل الشائع : جوع كلبك يتبعك. وإذا حاول عضك فإن السلاح والذخيرة أصبحت في متناول السلطة وجاهزة، وهذا ما حدث في تظاهرات بنغازي وطرابلس حين خرج الناس على مقرات الميليشيات فقتل في يوم واحد قدر ما قتله القذافي في شهر من بداية الحراك .
يبدو أن قدر الليبيين أن يدفعوا مرارا ثمن النعمة التي انبثقت من تحت أقدامهم ، وقدرهم أن تتحول ليبيا إلى جحيم بسب الثروة التي من المفترض أن تجعلها جنة. حين تدار النعمة بذهنية الحسد والفساد والياغمة تصبح نقمة ووبالا.