تناقضات الشرق الأوسط
منافسات ومجابهات بين القوى الكبرى والصغرى تنمو في عالمنا الحالي الغامض والمليء بالمفاجآت، حيث في كثير من الأحيان تلجأ فيها بعض الأطراف إلى العقوبات والتهديدات لتصبح العلاقات بينها مبنية على البراغماتية الخشنة ومستندة إلى المصالح الوطنية الضيقة التي تتسم بالأنانية، وتبرز بين الحين والآخر نزاعات جديدة وتحتدم القديمة منها، أما بعض المنعطفات في تطور الوضع الدولي فلا يمكن وصفها إلا بالغريبة، أو حتى المتناقضة.
أليس أمراً متناقضاً، ظهور حالة الحرب التجارية بين القوتين الرئيسيتين في العلاقات الاقتصادية في العالم، الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، وبدا أنه محكوم عليهما بالتعاون نظراً إلى الترابط العالي الفريد بينهما؟ ألا تبدو أزمة الاتحادات التكاملية، التي تظهر في أجزاء مختلفة من العالم من وجهة نظر منطق العولمة ذاته ومزايا هذه الاتحادات بجميع أنواعها (حيث من الأسهل أن تواجه الدول متحدة تحديات هذه العولمة وأن تستغل الفرص التي توفرها لها)، أمراً متناقضاً؟ يكفي أن نذكر الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي الذي كان من الصعب تصوره قبل عدة سنوات. صحيح أن بعض المحللين الروس يميلون إلى الحديث أكثر عن «التنبؤ بالغموض» ويحثون على عدم المبالغة في تقدير درجة المفاجأة في تطور الوضع في العالم وأقاليمه.
حتى المؤلف الشهير سيرغي كاراغانوف يعتقد أن الوضع الحالي للاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، كان يمكن التنبؤ به في تسعينات القرن الماضي.
يقدم الشرق الأوسط كثيراً من الأمثلة على هذا الشذوذ، باعتباره إحدى أهم المناطق التي تؤثر على مصير العالم والأكثر اضطراباً فيه اليوم. أصبح مستوى التدخل العسكري حالياً في هذه المنطقة من قبل القوى الخارجية مرتفعاً للغاية لدرجة أنه يعيد إلى الذاكرة صفحات الماضي الاستعماري. في الوقت نفسه، غالباً ما ينتهك بعض اللاعبين القواعد الأساسية للقانون الدولي وهو ما يثير الشك أحياناً بمدى جدوى وجوده. في ضوء التطورات غير المتوقعة فإن بعض الخطط التي كانت قريبة من أن تُطبق قبل بضع سنوات تبدو اليوم ضرباً من الخيال «طوباوية». في هذا السياق يمكننا ذكر خطة إنشاء نظام أمني جماعي شامل في الشرق الأوسط.
يبدو التحالف بين روسيا وتركيا أمراً متناقضاً للغاية، من ناحية المنطق الجيوسياسي التقليدي، حيث إن الأخيرة هي عضو في حلف الناتو، المنظمة التي تعتبرها موسكو في الواقع خصماً لها. توزع القوى حول النزاع الليبي هو أيضاً أمر فيه تناقض، حيث وقفت تركيا وقطر وإيطاليا (وبدا في السابق أن الأخيرة لا تتعاطف مع المنظمات المرتبطة بـ«الإخوان المسلمين») في معسكر مؤيدي حكومة الوفاق الوطني في طرابلس وفائز السراج، أما في المعسكر الثاني فوقف عدد من الدول العربية وفرنسا إلى جانب قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر ومجلس النواب المتحالف معه، والذي يتهم حكومة الوفاق الوطني بتمويل بعض الجماعات المسلحة غير الشرعية. إذا تحدثنا عن موقف روسيا، فإنها تواصل الالتزام بمسار عدم التدخل في النزاع الليبي وتحافظ على الاتصالات مع جميع الأطراف المتصارعة، على أمل أن تتمكن من مساعدتهم على تحقيق المصالحة. تجدر الإشارة هنا إلى أن المشير حفتر والسراج كانا قد زارا موسكو.
يبدو أن قوى تنفخ بالنار تسعى إلى حرب كبيرة. لقد أثارت استغراب المحللين الروس هجمات الطائرة المسيّرة، التي أطلقت مؤخراً من الأراضي اليمنية. لم يكن أقل إثارة للقلق تمكن أولئك الذين نظموا الهجوم على ناقلات النفط في المياه القريبة من ميناء الفجيرة من الوصول إلى هدفهم. على أي حال، فإن دل الحادث فهو يدل على إمكانات كبيرة لاستخدام طائرات من دون طيار صغيرة.
بلا شك سيؤخذ هذا الظرف على محمل الجد من قبل المحللين العسكريين في كثير من بلدان العالم. تحاول روسيا، المهتمة بشراكة بناءة مع جميع دول الخليج العربية بما في ذلك الدول القريبة منها في كثير من مجالات التعاون، وكذلك بشراكة بناءة مع إيران أيضاً، منع نشوب صراع عسكري في هذه المنطقة. في الوقت نفسه الذي عبرت فيه موسكو عن عدم الاتفاق القاطع مع الانسحاب الأميركي من الصفقة النووية مع إيران، الذي تم التوصل إليه بصعوبة بالغة من قبل مجموعة 5 + 1. وعن معارضتها للعقوبات الأحادية التي فرضتها واشنطن على طهران، فهي، أي موسكو، تدعو القيادة الإيرانية إلى ضبط النفس والالتزام الصارم بجميع أحكام خطة العمل الشاملة المشتركة.
في هذا الأمر يتطابق موقفها من حيث المبدأ مع موقف دول الاتحاد الأوروبي. أود أن أشير إلى أنه إذا تم التعبير عن الموقف الرسمي للولايات المتحدة فيما يتعلق بطهران بعبارة «أقصى ضغط» (maximum pressure)، فإن الأوروبيين، على حد تعبير فيديريكا موغيريني، يتحدثون عن «أقصى درجات ضبط النفس» (maximum restraint). خبير روسي طرح أحد الافتراضات المتناقضة بشرط عدم الكشف عن هويته قائلاً: «ألا يمكن أن يكون هناك مصالح ما لدوائر في إيران نفسها من توجيه الولايات المتحدة ضربة لها؟». يكمن المنطق هنا في أن مثل هذه الضربات في المرحلة الحالية ستكون بطبيعة الحال مركزة ولن تؤدي إلى سقوط النظام، ولكن على عكس ذلك، سوف تتسبب في تكاتف السكان ووحدتهم على أساس معادٍ للولايات المتحدة. علاوة على ذلك، ستتسبب في تعاطف سكان دول مع إيران.
مع ذلك، فإن هذا الافتراض لا يبدو دقيقاً. لا أحد يريد حرباً يمكن أن تطال في نهاية المطاف عدداً كبيراً من بلدان المنطقة. لكن أليس جون بولتون هو من نشر مقالاً في عام 2015، وقبل أن يصبح مستشاراً للأمن القومي، في «نيويورك تايمز» تحت عنوان: «لإيقاف قنبلة إيران، اقصفوا إيران»؟ من الواضح أن الرئيس ترمب لا يدعم هذا الرأي، والذي صرح حتى أثناء الحملة الانتخابية، بأن أحد أخطر الأخطاء السياسية في تاريخ الولايات المتحدة كان قرار بدء الحرب على العراق. لذلك، يجب أن تستخلص الدروس من الماضي. أما الأوروبيون فهم يخشون من أن يصيبهم الخجل إذا استمعوا لذرائع هيئات الولايات المتحدة، إذ لا تزال الحجج المفبركة التي عرضتها الولايات المتحدة في عام 2003 أمام أعينهم (لنستذكر أنبوب اختبار كولن باول الشهير الذي أصبح جزءاً من تاريخ العالم للمنتجات المزورة).
ومع ذلك، فإن مواقف الدول الأوروبية ليست دائماً منطقية. لنأخذ على سبيل المثال الانتخابات في سوريا المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254. تؤكد الدول الغربية أن الانتخابات الحرة والديمقراطية تفترض مشاركة جميع السوريين، بما في ذلك الموجودون خارج البلاد.
علاوة على ذلك، فإنهم يثيرون أزمة حول هذا الموضوع بذريعة أن دمشق تعارضه. لا شك أن روسيا تود أن تكون الانتخابات المقبلة شاملة وواسعة التمثيل، لكن هنا أود أن أقول شيئاً آخر: إذا كانت القوى الغربية ملتزمة بهذا المبدأ العادل المتمثل في شمولية الانتخابات، فلماذا وافقوا بالفعل (أو، على أي حال، لم يعترضوا) على قرار السلطات الأوكرانية باستثناء ثلاثة ملايين من الأوكرانيين العاملين في روسيا من قوائم الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية؟ هل من المعقول أن يكون بمقدور روسيا فرض التصويت ضد بوروشينكو خلال عملية الاقتراع السري في مراكز الاقتراع التي ستنظمها أوكرانيا والتي ستكون تحت مراقبة اللجنة الانتخابية الأوكرانية؟ علاوة على ذلك، بالنسبة لموسكو عموما، لم يكن مهماً من سيفوز من بين المرشحين بالانتخابات الرئاسية الأوكرانية، ذلك أنهم جميعاً تقدموا بالبرامج المعادية نفسها لروسيا.
أخشى من أنه على الرغم من ذلك، فسيتعين علينا مواجهة قرارات غريبة وغير متوقعة وغير متسقة من السياسيين. فهل سيجلبون لنا السلام؟