تفكيك الميليشيات: “الحل الأنسب والحل الأمثل”
سالم العوكلي
بعد سقوط النظام وإعلان تحرير طرابلس، أذكر أن صحيفة نيويورك تايمز حذرت وقتها من “احتمال الاقتتال بين الليبيين لفترة غير محددة بعد انتهاء الثورة ضد نظام العقيد الليبي معمر القذافي” وأشارت إلى “أن العديد من فصائل الثوار ترفض التخلي عن سلاحها على الرغم من تعهدات سابقة بتسليمه … بدعوى أنهم يعتزمون الحفاظ على استقلالهم الذاتي والتأثير في القرارات السياسية بوصفهم “حراس الثورة” . كما نقلت الصحيفة حرفيا تصريح أحد قادة فصائل الثوار في الجبل الغربي، أنور فكيني، وهو محام ليبي يحمل الجنسية الفرنسية ومقرب من كبار قادة المجلس الوطني الانتقالي “إن الفصائل المسلحة هي التي تملك القوة على الأرض، وإنه لن يصار إلى تسليم سلاحها حتى تتشكل حكومة شرعية في البلاد، وذلك من خلال انتخابات حرة ونزيهة وعادلة”. وما كان يطلق عليه الثوار أو حماة الثورة اختزل في جماعات مسلحة يقودها إرهابيون أو مجرمون خارجون من السجون، ردموا سلطات الانتخابات الحرة والنزيهة بالتوابيت واختطفوا العديد من أعضاء الحكومة الشرعية بمن فيهم رئيس الوزراء قبل ان يختطفوا العاصمة كلها.
وهكذا استمرت تلك الفصائل وتناسلت إلى أن وصلت إلى المئات بعد أن أصبحت الطريقة الوحيدة للحصول على النفوذ والتأثير في القرار السياسي وجمع المال، عبر تشكيل ميليشيا تسيطر على جزء من الأرض، وكانت المليارات التي تدور في طرابلس كافية لتحقيق نوع من التعايش بين هذه الميليشيات التي تحوّل معظمها من انتمائه الأيديولوجي أو السياسي إلى كونه ميليشيا مأجورة تنحاز لمن يدفع أكثر، وانخرطت في دائرة الفساد مع السياسيين الممثلين لها، ونوعت مصادر الدخل عبر المتاجرة في البشر، وتهريب الوقود والآثار والمخدرات، والخطف مقابل مبالغ مالية، وهي مصادر ملوثة سببت بينها مواجهات كان المدنيون يدفعون ثمنها من أرواحهم وممتلكاتهم واستقرارهم .
وما حصل أنه أثناء سيطرة كتلة الوفاء لدماء الشهداء على المؤتمر الوطني وعلى حكومة الكيب تم تمكين أشخاص لهم سجل إرهابي طويل من مفاصل الدولة عبر تعيينهم وكلاء لوزارات وأجهزة حساسة متعلقة بالأمن أو بإدارة الأموال، وعينوا مواليهم أمراء لجماعات مسلحة انتشرت في ربوع ليبيا تحت مسمى قوات درع ليبيا التي يتحكم فيها إرهابيون، وتحالفت تلقائيا مع تنظيمات أنصار الشريعة والقاعدة وفيما بعد داعش؛ باعتبار أن الجيش الوطني الذي بدأ يعاد بناؤه يشكل خطرا على مخططاتها المدعومة بأموال البنك المركزي وأموال دول إقليمية عرف عنها ارتباطها الوثيق بالإسلام السياسي وأذرعه الإرهابية في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
والآن تورط أمراؤها ومنتسبوها في جرائم ضد الإنسانية وفي جرائم قتل وفساد مالي، وأصبح تخليهم عن السلاح نوعا من الانتحار الجماعي، وهذا ما جعل د. محمود جبريل الذي تفطن لهذه المخاوف مبكرا، يؤكد أن “ثمة حلا أمثل وثمة حلا أنسب”. الحل الأمثل في قدرة جيش وطني قوي قادر على نزع السلاح بالقوة من هذه الميليشيات وتفكيكها، وحل أنسب في التعامل مع مطامع ومخاوف هذه الميليشيات بشكل عملي يجعلها تتحرر من خوف تسليم سلاحها. وما بين هذين الخيارين خرج آلاف من سكان طرابلس في مظاهرة يطالبون بالجيش والشرطة، لكن المشهد في النهاية أعاد لنا مشهد كتائب القذافي حين أطلقت الرصاص على المتظاهرين، وكأن قدر طرابلس المسالمة أن تكون تحت رحمة كتائب القذافي الأمنية المسماة بأسماء أشخاص، أو الميليشيات الوريثة لها المسماة أيضاً بأسماء أشخاص، والتي جميعها تقمع الشعب بحجة الحفاظ على الثورة.
هل ثمة حروب ضرورية؟ لا أعرف، ولكن في دردشة مع صديقي عمر الككلي الذي لا يتخلى عن الموضوعية أو العقل اليقظ حتى في الدردشة سألني عن أحوالي؟ وحينها كنا في انتظار معركة تخليص درنة من الجماعات الإرهابية، فأجبت : نحن بخير .. ومازلنا في انتظار الحرب. وكان رده جملة مختزلة ومعبرة: “الحرب مشكلة .. وعدم الحرب مشكلة”. وقالها عمر لأنه يعرف أن الجماعات التي كانت تسيطر على درنة، لا حل معهم سوى الحرب وهم من يرغمون كاتبا مستنيرا ومبدعا رقيقا على أن يقول “عدم الحرب مشكلة” ، والهاربون من هذه الجماعات يقاتلون الآن الجيش الليبي في محاور طرابلس المختطفة من الوطن مثلما كانت درنة مختطفة.
حين يتم الحديث عن عاصمة دولة لا يمكن استخدام إقليمها الجغرافي كتعبير عنها، لأن العاصمة هي ملك لــ /وتمثل كل سكان الدولة، باعتبار مصالح وقوت الشعب كله متعلق بهذه العاصمة، وبالمختصر المفيد أنا في بيتي في هذه القرية التي تبعد عن طرابلس 1300 كم، لا استطيع أن أضع طنجرة على النار إلا عن طريق العاصمة طرابلس، التي بها المصرف المركزي حيث معاشي الشهري، وحيث الاعتمادات التي من المفترض أن توفر رغيف الخبز بسعر في متناول المواطنين، وللأسف هذه العاصمة المرتبطة بها حياة شعب برمته مختطفة من قبل ميليشيات مسماة بأسماء أشخاص لم نسمع بهم يوما إلا في قوائم الإرهاب أو سجلات السجون الجنائية، ما أدى إلى مواجهات تتكرر بينهم كلما اختلفوا مثل عصابات المافيا على مناطق النفوذ وعلى المال المخصص لهم من قوت الليبيين الواقفين طوابير أمام المصارف، ما جعلها الآن ملاذا لمن كانوا يذبحوننا في مدن الشرق ويهجمون علينا في مراكز الاقتراع بالقنابل اليدوية مكبرين ومطلقين علينا نعوت الطواغيت والمرتدين (وأقول ذلك لأني رأيت صور هؤلاء رأي العين يقاتلون الجيش في محاور طرابلس).
طيلة 7 سنوات فشلت كل المحاولات السياسية لتفكيك هذه الميليشيات المارقة المستفيدة من الفوضى وعدم بناء دولة القانون، بل هذه المفاوضات والمبادرات أنتجت في النهاية أجساما سياسية ممثلة لها ومعترفا به دوليا، وتوقيعات مخولة من أجل دعمها بشكل رسمي عبر المصرف المركزي. وفي جميع الأحوال لا يمكن الخروج من الأزمة إلا عبر إعادة المسار السياسي المنقلب عليه بالسلاح منذ حرب فجر ليبيا، ولكي يتقدم هذا المسار نحو الدولة المدنية لابد من (الترتيبات الأمنية) التي تتمثل في تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها، وهل من الممكن أن تقوم الميليشيات التي معظمها يرفض حكومات الشرق والغرب، أن تقوم بهذا الخيار الذي يحقن الدماء، والتي للأسف لا تضع الدولة إلا أمام خيارات محدودة، إما تقسيم ليبيا، أو تدخل عسكري دولي سيكون كارثة على الجميع، أو أن يقوم الجيش بالمهمة، بعد أن أصبح قادرا على إمكانية تفعيل “الحل الأمثل” وبعد أن رفضت هذه المجموعات المارقة فرصة “الحل الأنسب”.