تفاؤل المبادرات وجدار الميليشيات
سالم العوكلي
في صدد حديثي عن الأزمة الليبية، تكررت في مقالاتي عبارة “من يرى الشجرة لا يرى الغابة” بمعنى من يغرق في التفاصيل لا يرى الصورة الشاملة، ولن نذهب بعيدا لأن هذه الصورة ظاهرة بوضوح في لبنان والعراق. هي دول تتغير فيها الحكومات مرارا لكن أزماتها تستفحل، ولا حكومة قادرة على أن تخطو خطوة إلى الأمام، وهي حكومات شرعية جدا ومعترف بها دوليا لكنها تعمل في بيئة تتحكم فيها الميليشيات والسلاح الخارج عن القانون. هذه هي الصورة العامة المرعبة التي تشوش عليها التفاصيل التي يتعمد البعض إغراقنا فيها كي لا ننتبه لهذا الكابوس الذي يترصد مستقبلنا. أو كما يقال: “الشيطان يكمن في التفاصيل”. وفي حالتنا الشيطان تعبير مجازي عن العناد الذي أجهض كل الحوارات والمبادرات حين يكون النقاش في التفاصيل جدول أعمالها.
جل المبادرات التي تتعاطى مع الأزمة والليبية، وفي محاضر الحوارات والمفاوضات، تتكرر فيها مفردات وسياقات من قبيل (إدماج، أو حل، أو تفكيك الميليشيات) ولا أحد يتوقف عند هذه السياقات وكأنها تحصيل حاصل، أو إجراء يشبه هدم الأكشاك المخالفة على الأرصفة.
هذا السياق الذي يتكرر نموذج للصورة الشاملة، وهو أساس الأزمة الليبية، والتعامل معه بسهولة، أو رعونة، يُفرِّغ كل تلك المبادرات والحوارات من المعنى ومن الفاعلية.
فهذه الميليشيات المدججة بكل أنواع الأسلحة، أصبحت تسيطر على عاصمة إحدى الدول الغنية في المنطقة، وأصبح لها سوق مالي وبورصة تنساب عبرها ملايين الدولارات والدينارات يوميا، وأصبحت تتحكم في أي حكومة أو سلطة مركزية، شرعية أو غير شرعية، معترف بها دوليا أو غير معترف، وبالتالي تتحكم في أصحاب المناصب السيادية التي يدور حولها الحوار الآن. إضافة إلى المجموعات المسلحة التي تتبنى رؤى دينية متطرفة تضعها في قوائم الجماعات الإرهابية.
لم تعد مجرد ميليشيات صغيرة كما كانت في بداية الأزمة، لكن تجاراتها توسعت، ونفوذها تضخم، وتحولت إلى (نظام حكم) بكل معنى الكلمة، والقول بحلها في مستوى قولنا (الشعب يريد إسقاط النظام) وهو هتاف لم تحققه إلا ثورات شعبية عارمة في بعض الدول التي سقطت أنظمتها، وماذا يعني النظام في دول مثل ليبيا ــ استكان شعبها فترة طويلة لمنظمومة أمنية قهرية تعمل خارج أي شرعية للحكم متعارفا عليها ــ إلا تلك القوة غير الشرعية التي تملك السلاح والمال، وتضمن أمن الناس في سياق الحفاظ على أمنها واستمرارها، وهذا ما تمثله الميليشيات، فالنظام السابق حكم المجتمع عقودا خارج الشرعية عبر احتكاره لاستخدام العنف والسجون خارج أي مرجعية دستورية أو قانونية، واستخدام المال العام دون أي مرجعية تعاقدية أو رقابية، وحين ترك هذه الأدوات شاغرة تحولت مع الوقت إلى حوزة هذه الميليشيات التي تعرف جيدا أنها أدوات التحكم الميسرة التي ستضمن لها يوما التواطؤ معها والتسليم بوجودها كأمر واقع، وبالتالي، ضمن ما ستعترف به الدول الكبرى وتحسب حسابه، وضمن ما ستعترف به المبادرات المقبلة أو الحوارات السياسية، وهم يدركون أن لا مناص من قيام الدولة في لحظة ما، وفي أفضل الأحوال سيوافقون على دولة تشكل الميليشيات جزءا من بنيتها وتركيبتها السياسية كما حصل ويحصل الآن في دول كثيرة من الدول التي مرت بها الفوضى.
حتى الآن لم يوضع تصور لما يسمونه إدماج أو حل أو تفكيك هذه الميليشيات، ولا خارطة طريق، ولا آلية محددة، سوى مادة (الترتيبات الأمنية) الغامضة التي وردت في اتفاق الصخيرات، لذلك فكل المتحدثين عن هذا الشأن يعرفون أن التوقف عنده يعني التوقف عن الحوار أو قتل المبادرة في مهدها. والوحيد الذي قدم تصورا موضوعيا للتعامل مع الميليشيات بواقعية سياسية كان رئيس تحالف القوى الوطنية د. محمود جبريل. الذي رأى أن “ثمة حل أمثل، وثمة حل أنسب”. الحل الأمثل في قدرة جيش وطني قوي قادر على نزع السلاح بالقوة من هذه الميليشيات وتفكيكها، وحل أنسب في التعامل مع مطامع ومخاوف هذه الميليشيات بشكل عملي من شأنه أن يضمن استمرار مطامعها ويحررها من خوف تحقيق العدالة بشأنها. وكان دقيقا في مفرداته حين قال “حل أمثل” و”حل أنسب”، وحين قال (مطامع) ولم يقل (مصالح)، وما بين هذين الخيارين كان الخيار الثالث خروج المظاهرات المطالبة بتفكيك الميليشيات في طرابلس مثلما ظهرت في مدن الشرق حين كانت الميليشيات المتطرفة تسيطر عليها، لكن المشهد في النهاية أعاد لنا مشهد كتائب القذافي حين أطلقت الرصاص على المتظاهرين في طرابلس، وفي الحالتين كانت الذريعة المحافظة على الثورة من أعدائها.
وصفة (إدماج) أو (حل) أو (تفكيك) الميليشيات كان من الممكن أن تتحقق في البداية ومع انتخاب أول سلطة تشريعية (المؤتمر الوطني) وحكومته التي شكلها، حيث كانت الميليشيات آنذاك لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، لكن المؤتمر الوطني المنتخب الذي سيطر عليه تماما جماعة الأخوان والجماعة الليبية المقاتلة انحرف عن هذه المهمة، لأن الإسلام السياسي كان يفكر في نظامه المسلح الخاص به، وهذا النظام الخاص جزء من بنيته التي سبق أن نظّر لها مؤسسو تنظيم الأخوان من البداية، وبدل أن يدمج أو يحل المؤتمر الوطني وحكومته الميليشيات بحث عن وسائل لشرعنتها ، ولأن هذه الميليشيات تسيطر على تركة النظام من المال والسلاح هي التي استطاعت في النهاية أن تدمج المؤتمر الوطني والحكومة المتمخضة عنه فيها، وتكاثرت حتى أصبحت تعد بالمئات، وعلى رأس كل ميليشيا شخص أو أشخاص أصبحوا بارونات حرب، ومع الوقت أصبح تدخل القوى العالمية والإقليمية مرتبطا بهؤلاء الأشخاص المسيطرين على ثروة البلاد كعملاء موثوق فيهم لهذه القوى، بينما المصرف المركزي وبعض رجال الأعمال يدورون المال ضمن هذه التركيبة المختلطة من النظام الرسمي المدمج في الميليشيات، وتحولت الأجسام الرسمية المخولة بالتوقيع على الصكوك والقرارات المهمة إلى مجرد قناة رسمية بين بيت المال وبين هذه الميليشيات، وخرج الأمر على السيطرة، وتضخمت (مطامع) هذه الميليشيات في السلطة حتى أصبح التفكير في إدماجها أو تفكيكها أو حلها شبه مستحيل، وتضخمت مخاوفهم من كل المبادرات أو الحوارات التي تسعى لحل الأزمة وأصبحت قادرة على تقويض أي فكرة للخروج من هذه الفوضى، وربما أقصى تنازل سيرضون به يوما أن يتحولوا كما هم إلى قوى سياسية ممثلة في المجالس النيابية وفي الحكومات كما يحدث الآن في لبنان والعراق، حيث كل حزب خلفه ميليشيا وكل ميليشيا تحركها قوة من الخارج، وكل استحقاق سياسي لا بد أن يضع هذا الواقع في حسابه.
والخطر في هذا الاستسلام للأمر الواقع أن يفضي إلى صفقة تجعل الميليشيات جزءا أصيلا من بنية الدولة الليبية المقبلة حتى ولو كان شكل الدولة مدنيا ويتمتع ببعض مظاهر الديمقراطية، وقد يستمر هذا عقودا طالما يلبي مصالح قوى أخرى متدخلة في ليبيا، فتقسيم الكعكة الليبية بين هذه القوى يعني تقسيم عملائها الداخليين الفاعلين عبر السلاح، ليكونوا جزءا من صراع مصالح هذه القوى وأحصنة طروادة داخل قلعة السيادة الليبية.
لكل هذا فالقول بهذه السهولة الغريبة بحل الميليشيات قول فارغ من أي معنى، والحوارات التي تجري ــ وفي بياناتها هذا المصطلح الرومانسي ــ إما أن تؤدي إلى إجهاض الحوار أو تؤدي في النهاية إلى التسليم بواقع هذا السلاح الخارج عن القانون ليكون حاضرا بقوة في أي استحقاق سياسي مقبل وقادرا على توجيه بناء الدولة وفق ما يخدم (مطامعه).
إذن ما الحل؟ بعد أن وصل الحل الأمثل إلى طريق مسدود، والحل الأنسب سيكون كارثة حقيقية بعد أن تضخمت مطامع هذه الميليشيات التي ازدادت قوة بشرية وسلاحا بتدخل إحدى دول الناتو (تركيا). هل سيكون نقل الأجسام السيادية ومؤسسات المال إلى مدينة خارج مناطق تحكم الميليشيات نوعا من تجفيف المستنقع للقضاء على هذا البعوض المتناسل فيها؟ وهل يكفي تحديد منطقة خضراء كما حصل في العراق لتفكيك الميليشيات أو حتى إضعافها؟ يبدو أن كل الحوارات والمبادرات تعمل عن طريق أشخاص ممثلين لأجسام سياسية، هم وأجسامهم جزء من المشكلة، وجميعهم لا قدرة لهم على تحييد زناد واحد من ملايين قطع السلاح المنتشرة، ويحدث هذا في غياب الشعب أو المجتمع أو القوى الوطنية أو الناس (لا أعرف ما أسميه) ولكن المجتمع من المفترض أن يكون حاضرا بتركيباته الاجتماعية والمهنية، والتي من المفترض أن تكون منظمة على الورق وتحتاج للتواجد فوق الأرض. غياب كامل للحياة النقابية عن المشهد، وتغييب كامل للقبائل كتركيبة اجتماعية فاعلة في ليبيا ومسيطرة على كل الأرض الليبية والكثير من عناصر الميليشيات ينتمون إليها، وغياب لمنظمات المجتمع المدني، وغياب كامل للحياة الحزبية التي أُجهِضت عن طريق السلاح في رحمها. إذا كان الليبيون عاجزون عن إنتاج ثورة أخرى تطالب بإسقاط النظام والطبقة السياسية برمتها فعلى الأقل لهم أن يتواجدوا عبر هذه التركيبات الشعبية في كل مبادرة أو حل.
وتفكيك الميليشيات لن يتقدم خطوة إلا بتوحد المجتمع بكل شرائحه ومكوناته ضدها، وتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية على كامل تراب ليبيا في مواجهتها.