تصفية الجيوش عقيدة الإخوان
سالم العوكلي
كتبت كثيرا عن الجيش الليبي، ودائما كنت أكتب عن (الجيش) وليس الأشخاص، لأني عشت في وسط هذا الجيش وأعرف الكثير من ضباطه وأفراده بحكم الصداقة أو الجيرة أو القرابة، وأعرف جيدا عقيدتهم الوطنية وكيف يشعرون حيال ليبيا، وإذا قدر للجيش أن يحسب على المنطقة الشرقية فهذا لأسباب أيديولوجية وليس جغرافية، لأن سيطرة جماعة الإخوان على طرابلس والمنطقة الغربية منع فيها تشكل أي فكرة للجيش، ولأنهم يعرفون أن الجيش، أي جيش، هو عدوهم الأول وهو السبيل الوحيد لإحباط مخططاتهم.
حين سيطرت جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة على أول سلطة تشريعية في طرابلس، شكلوا ذراعهم المسلح الخاص بهم المسمى (درع ليبيا)، ووضعوا الإرهابيين الذين بعضهم مطلوب دوليا في قيادات هذا التشكيل المسلح، بينما ثقل القوات المسلحة الليبية في الغرب الليبي حيث يوجد عشرات الآلاف من العسكريين من ضباط وضباط صف وجنود يحملون أرقاما عسكرية ويتقاضون مرتباتهم من القوات المسلحة، لكنهم أقصوا من المشهد، ومن لم ينزح منهم لا يستطيع الخروج من بيته، ومن ضعف من الضباط الكبار والتحق بالميليشيات يتلقى أوامره من آمري الميليشيات المدنيين الذين لا يعرفون حتى المشية أو القيافة العسكرية، وبعضهم خرج من السجن لجرائم جنائية، وحين عقدت مصر مفاوضات متعددة لتوحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا ، كانت تركيا وقطر تنقض كل ما تنسجه مصر، لأن ثمة تنظيم أخواني تابع لهذه الدول هو المسيطر في طرابلس، وتوحيد المؤسسة العسكرية يعني نهايتهم ونهاية تمكين الإسلامي السياسي من السيطرة على العاصمة بما تشكله من أهمية للكيان الليبي.
حين أحس الجيش المصري بالخطر؛ الذي يتهدد وجود مصر كدولة عندما وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة، فرضت عليهم العقيدة الوطنية الراسخة أن ينقذوا مصر، حيث كان المخطط لتفتيتها مكتوبا على الورق، صفقة القرن التي تعطي سيناء وطنا بديلا للفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية، والتنازل عن أراضٍ من جنوب مصر لنظام الإخوان الحاكم في السودان، ومضايقة الأقباط لكي ينزحوا مثلما نزح المسيحيون من العراق وسوريا، وكان أردوغان يتبختر في مصر كسلطان عثماني لولاية تتبعه، ويملي على الأخوان في خطابه بدار الأوبرا ما يجب أن يفعلوه، ومن جانب آخر كان أحمد نجادي يتسكع في مقدساته الشيعية في القاهرة رافعا علامة النصر كفاتح جديد. وكان الجيش المصري يرى هذا السيناريو المرعب لتقويض دولة عمرها عشرة آلاف سنة، وإلحاق الجيش المصري بمصير الجيش العراقي والسوري، وأُجهِض هذا المشروع عبر التحام ملايين من الشعب المصري مع جيشهم وقلبوا الطاولة على هذا المخطط الخطير، مثلما التحم السودانيون مع جيشهم كي يسقطوا النظام الأخواني الذي قسم السودان ووضعها على حافة الإفلاس.
يحارب الآن الجيش الليبي جيشا من حلف أنشأ جسرا عسكريا بين إسطنبول وطرابلس، وبتواطؤ منهجي من قبل كل دول الناتو التي يفرض عليها حلفها أن تدعم بعضها ظالمة أو مظلومة. جيش عمره 5 سنوات، كأن يتأسس ويحارب الإرهاب في الوقت نفسه ، وهو يرزح تحت عقوبات دولية منذ عام 2011 تمنعه من التسلح بشكل مشروع.
فلنعد للتاريخ الذي عادة يعيد نفسه ولو عن طريق خيال الظل، فحينما غزت إيطاليا ليبيا تشكلت مقاومة وطنية بأقل إمكانات كانت تحارب بأسلحة يدوية قديمة وعلى صهوات الجياد جيشا مدججا بالدبابات والطائرات التي استخدمت في ليبيا لأول مرة، وكان الضجيج الإعلامي يصف تلك المقاومة الوطنية بـ (المخربين) أو (المتمردين) أو العصابات المسلحة، وكان عمر المختار المعفر بالتراب الذي يبيت مع جيشه الصغير تحت أشجار الخروب يوصف متمردا ومارقا ومتهورا إلى غير ذلك من الأوصاف التي أطلقت وقتها عليه، وفي النهاية لم يصح إلا الصحيح، ذهب المتواطئون إلى مزبلة التاريخ، وأصبح المختار رمزا، ليس رمزا وطنيا للمقاومة فقط بل رمزا إنسانيا، سميت باسمه شوارع في العالم من فنزويلا إلى فلسطين، وغدا ملهما لأي مقاومة لا تعرف اليأس، لأنه حارب بعقيدة وطنية، لم تدبج فيه قصائد الشعر ولا علقت صوره ولا طمع في سلطة، حتى شنق في مشهد كان الشانق فيها هو الخاسر. خسر ذلك الجيش الحرب لكنه لم يخسر الكرامة، ولم يخسر مبدأ المقاومة الغريزي عن الأرض، ولم يخسر ليبيا التي نالت استقلالها في النهاية بعد هذه التضحيات، حيث السياسيون الذين فاوضوا على الاستقلال في المحافل الدولية كانوا يحملون دماء تلك المقاومة دينا على أكتافهم وحافزا لأن تكون ليبيا مستقلة كما أرادوها، وحين أتابع جيش الإخوان الإلكتروني وهو يحاول يوميا أن يشوه شخصية عمر المختار بنفس ما كان ينعته به الطليان، تتضح هذه الرغبة الفاشية لدى هذا التنظيم الأممي في اقتلاع أي فكرة أو جذور للمقاومة الوطنية، ومحو ذاكرتها، لأن الوطن عندهم مصطلح مناقض لمشروعهم.
الآن الضجيج الإعلامي يملأ الساحة، ويصف جيشا من سلالة تلك المقاومة ومن سلالة الجيش السنوسي الذي شكل وحدة للجيش الليبي ومن كل أنحائها، يصفه بالمتمردين أو العصابات أو غيرها من الأوصاف نفسها التي كانت تطلق على المقاومة وقت الغزو الفاشي، لكن هذا الضجيج الإعلامي سيبتلعه الأثير، وسيختفي كأي تشويش على الحقائق، وسيروي ضمير التاريخ روايته بهدوء حين ينقشع كل هذا الدخان، مثلما روى بعد انقشاع الفاشية روايته عن تاريخ المقاومة الليبية، فذهب المتواطئون إلى قائمة العار، وأولئك المقاومون سميت بأسمائهم المدارس والشوارع وما زال أحفادهم يرفعون رؤوسهم أينما حلّوا.
دماء الليبيين منتشرة في كل بقعة من هذه الأرض، وسجل الخونة دائما يتمدد في أرشيف التاريخ، ودائما في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
طيلة الفترة الماضية لم أُرد، ككثير من عشاقها، لطرابلس أن تتضرر أو يؤذى سكانها، وكتبت عن طرابلس مرارا منذ أن كان سكانها يعانون ويلات المعارك والقصف والخطف، وكان الهلال الأحمر يحاول أن يوفر مخارج آمنة لهم منذ أن كان هذا الجيش يبعد عنهم ألف كيلومتر. كنت كغيري من عاشقي طرابلس لهذه الميليشيات أن تتفكك تحت أي ضغط عسكري أو سياسي، من أجل أن تنهض طرابلس من هذا الكابوس وتقود ليبيا إلى المستقبل كعاصمة تاريخية، وأن تخرج من تحت عباءة الإخوان الذين لا يؤمنون بفكرة الوطن ولا الدولة المدنية ولا الحدود ولا السيادة، فهم تنظيم أيديولوجي يعمل في فراغ جغرافي وكل خبرته العمل في الظلام.
أما الحديث عما يحدث من جرائم في مراكز الهجرة، من قتل وتجويع واغتصاب يومي يتم تحت رعاية المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، بل بتواطؤ مع بعض أفرادها المتاجرين في البشر، سيكون موضوع مقالة أخرى فقط لأؤكد على أن عاصمتنا تتحكم فيها مجموعات إجرامية، وما يسمى المجلس الرئاسي أو مجلس الدولة ما هم إلا غطاء سياسي لهذه المجموعات، ولأؤكد ما تتعرض له ليبيا من تشويه لم تشهد مثيله عبر شهادات الناجين من جحيم مراكز الهجرة.