كتَـــــاب الموقع

“تحرير بنغازي من الكاتدرائية”

عبدالله الغرياني

وضع حجر تأسيس كاتدرائية بنغازي إبان حكم الاستعماري الإيطالي وافتتحت في ديسمبر عام 1939.م وهي كاتدرائية كاثوليكية زارها موسليني في فترة بنائها في 1937م، وأثناء الحرب العالمية الثانية تعرضت لقصف طيران سلاح الجو الإنجليزي وتم ترميمها وبقت تعمل حتى انقلاب سبتمبر لتتحول في 1971 مقرًا للاتحاد الاشتراكي العربي.

شهد ميدان الكاتدرائية عمليات إعدام نفذها نظام سبتمبر بحق “محمد الطيب بن سعود” و “عمر علي دبوب” وبقت جثامينهم معلقة على المشنقة لوقت وتم إنزالها لاحقًا، وكانت من أشهر الإعدامات التي نفذها نظام سبتمبر ضد معارضيه بعد توليه الحكم، تعرضت الكاتدرائية لحريق أغلقت على أثره ولم تفتح حتى يومنا هذا.

ويروي لنا المؤرخ الدكتور فرج نجم جانب من حكمة الآباء المؤسسين تجاه الكاتدرائية حيث كتب عن المرحوم عبدالقادر البدري :

“الذي كان يقول متأثرًا “يحز في نفسي كلما أتي حادرا من علاوي الرجمة وبنينا وأرى تلك الكاتدرائية ذات القبتين الجميلتين وهي منتصبة في وسط المدينة لا تخطئها العين ولا يوجد لدينا صرح إسلامي يناظرها ولكن بعد تشاوره مع الملك إدريس السنوسي في قصره بطبرق ولدت فكرة بناء مسجد عرف باسم “جامع البدرية” نفذته شركة المقاولون العرب وافتتح في منتصف عام 1969.م وكان تحفة معمارية وحاكى قبتي الكاتدرائية بمئذنتين أعلى من قبتي الكنيسة وبنى البدري المسجد بماله الخاص”.

هذا الموقف الذي سرده لنا الدكتور “فرج نجم” يوضح لنا مدي حكمة أهلنا الأولين وتقديرهم للإرث التاريخي وعدم الاعتداء على الكاتدرائية، رغم صلاحيات الملك إدريس السنوسي وموقع البدري الذي يمكنهم من التصرف بمبني الكاتدرائية كما يشاؤون، ولم يشعر سكان المدينة بالخطر من وجود الكاتدرائية فبنغازي التي وصفها الامام الكبير محمد بن علي السنوسي مؤسس الدعوة السنوسية : “بلادنا فيها تحيا أورادنا، الحي فيها سعيد والميت فيها شهيد، فطوبي لمن أراد بأهلها خير، والويل لمن أراد بأهلها الشر” ففيها المنارات والزوايا الدينية ويعيش أهلها في رحاب الوسطية وأرث الديني متين تركه مشايخها الاجلاء منهم فضيلة الشيخ “محمد الصفراني” الأديب والشاعر والمتبحر في العلوم الشرعية والذي تولي منصب مستشارا بمحكمة الاستئناف الشرعية بنغازي ثم مفتيا لولاية برقة في العهد الملكي والذي رغم فقدانه للبصر تعلم على يده العديد من المشائخ الافاضل الفقه المالكي من بينهم “علي بوزغيبة” و “محمد أبو سنينة” و “فرج بوعود” رحمهم الله جميعًا، وشهدت بنغازي ولادة الكثير من المشايخ المحفظين والوعاظ منهم الواعظ والخطيب الشيخ “محمود دهيميش” رحمه الله الذين كانت بنغازي تتدافع لحضور صلوات الترويح والجمعة خلفه، هؤلاء المشايخ الافاضل يعيشون في ذاكرة أهل المدينة رموزًا للوسطية والاعتدال ولم تشهد مدارسهم خروج متطرفين يكفرون الناس ويعتدون عليهم أو يقيدون حريتهم، وكانت المدينة بفضلهم تعيش في سلم مجتمعي خالي من التعصب الديني، حتي نشأت ما يعرف بالصحوة في المملكة السعودية لترمي بظلالها على بلادنا ليبيا ودخل من خلالها صوت متطرف أصبح يحارب الوسطية ويعادي العصر، وقامت الدولة آنذاك بالحد من مد الصحوة في البلاد وأعلنت عن تحرك أمني واسع ضد أفرادها في فترة مختلفة .

انقسمت الصحوة على نفسها بعد سنوات من نشأتها وأصبحت تيارات بأشكال متعددة ولكن بقي جوهرها واحدًا هو الإرهاب والتطرف والإقصاء، مدينة بنغازي عانت كثيرًا من المد الصحوي الوهابي بأشكاله المختلفة وفروعه المتعددة، وعلى أنقاض المعاناة الأخير التي عانت منها المدينة من التيارات السلفية الجهادية، وجدت نفسها أمام تيار سلفي آخر الذي يعرف نفسه بالعلمي وهو الآخر من بقايا الصحوة متمثلاً في المداخلة، الذين صمتوا في أحداث عديدة عاشاها سكان المدينة، حتي انطلاق معركة الكرامة التي قادها الجيش الليبي ضد الجماعات الإرهابية “السلفية الجهادية” قاتلوا السلفيين المداخلة والجامية بعد إيعاز من مشايخهم بالسعودية وميزوا أنفسهم داخل المؤسسة العسكرية باسم الفصيل السلفي في الوقت الذي قاتلت في المعارك العديد من الكتائب العسكرية النظامية والمتطوعين المدنيين الذين لم يميزوا أنفسهم بأسماء عقائدهم الدينية مقاتلين لأجل القضاء على الإرهاب وإقامة دولة المؤسسات والقانون والدستور، انتهز السلفيين المداخلة الفرصة وقاموا بالاستحواذ على مؤسسة الأوقاف وشن هجوم على المخالفين لهم وطردهم من المساجد من اتباع المنهج والطرق الصوفية الذين تم إغلاق زواياهم الدينية واتهامهم بأهل البدع والضلال مهددين السلم المجتمعي ورافضين للحوار الديني الذي قد يخلق توافق بينهم وبين من يعارضهم دون اللجوء للإقصاء، مستقويين بالمؤسسات العسكرية والأمنية التي أعطتهم المساحة نظرًا لمشاركتهم معها في الحرب متجاهلين الأسس المهنية التي من المفترض تبنى على أساسها هذه المؤسسات، ارتفع صوت هذا التيار اليوم في بنغازي على انقاض الدمار الذي خلفته حرب أهالي بنغازي على الإرهاب موجهًا خطابه المتطرف باتجاه كافة معارضيه والرافضين له، ليتأثر بهم عدد من الشباب لعدم إدراكهم حقيقة هذا التيار والانهيار الذي يعيشه في بلد المنشأ، ليغلقوا مراكز الثقافية ويصادروا العديد من الكتب من المكاتب ومعادات الأنشطة الفنية وتهجم على فئات عديدة في المجتمع، هذا التغول صدمني وصدم الكثيرين فبعد الكم الهائل للتضحيات ودمار وخسائر التي سببتها الحرب على الإرهاب ننصدم منذ العام الأول لتحرير مدينة بنغازي بصعود تيارا آخر يتخذ من التعصب أسلوبًا لقمع معارضيه ويتحرش بهم بسلاح الجيش والمؤسسات الأمنية، ليصل بهم الأمر للاعتداء عبر أحد اتباعهم على الصرح التاريخي كاتدرائية بنغازي التي تعتبر إرثًا تاريخيًا وإنسانيًا، وسبق وأن تقرر وفق الأولويات التي تحتاجها المدينة لمتحف ومكتبة مركزية، فلا يمكن بقاء مدينة بنغازي بدون مجمع يجمع تاريخيها العريق داخل مبنى الكاتدرائية التاريخي، وتحويل الكاتدرائية دعمته كافة النخب والنشطاء المدنيين قبل أعوام وكان من المفترض البدـ في صيانة وإنجاز العمل، ولكن قام هذا التيار بخطوة تعتبر سطو على مبني الكاتدرائية ليضعوا لافته تفيد بأن المبني تحول “لمسجد الأمام أنس بن مالك ” دون حتي الرجوع للمؤسسات والجهات المسؤولة على الكاتدرائية، وفور انتشار صور الاعتداء على المبني تفاعل العديد من سكان المدينة ونشطائها الذي اتخذوا موقفًا ضد هذا السطو والاعتداء ولحاجة المدينة لصرح ثقافي وتاريخي طالبوا بعدم تحويلها لمسجد فبنغازي بها مئات المساجد وحول الكاتدرائية فقط حوالي 18 مسجدًا، ليقوم هذا التيار عبر أتباعه ومناصريه بشن حملة على أصحاب هذا الموقف والرأي بجملة من الاتهامات أبرزها النصرانية ومعادات الدين والعلمانيين والملحدين محاولين تحريض المجتمع بتقديم خلط للمفاهيم لقمع معارضيهم، معلنين لهم بأن هذه الخطوة بأنها انتصار لدين الله وكأنه المدينة لم تدخل للإسلام وأهلها لا مكان لديهم ليؤدواصلواتهم، هذه الاعتداء الذي يقف ورائه السلفيين الوهابيين مؤشر خطير يجب على المؤسسات التدخل فورًا لإيقافه والاعلان عن فك الارتباط الذين بينها وبينهم وإنهاء تغولهم والحد من خطابهم المتعصب، وأن تدعوا الوفاق داخل المدينة يحيي الوسطية ويبعد خطاب التعصب والاقصاء وهذا ليس بالصعب ففي بلد المنشأ تم هذا الأمر ويزداد نحو إغلاق ملف الصحويين نهائيًا، مدينة بنغازي تحتاج لهذه الفترة الحرجة بالتحديد لأجواء الهدوء والسلام بين أهلها لتشرق من خلاله شمس المعرفة والتثقيف والتوعوية ودعم المتجمع المدني وتقوية دور النشطاء المدنيين والأحزاب السياسية وفتح المجال أمامهم ليتولوا مسؤولياتهم، أما تعصب التيار السلفي لم يعد مقبولاً فهم يخلقون باستمرار التصادم الذي قد يتخذ منحني خطيرًا في المستقبل لتهديده للسلم المجتمعي، لابد من معالجة هذه المسألة بشكل فوري وعاجل ولتعود بنغازي لأصالتها فلا وصيًا على أهلها، وإن مقاومة الاستبداد بكافة اشكاله أصبح نهج لدي فئات كبيرة بالمدينة ويمكن النظر بتمعن في العقد الماضي والبناء عليه في المستقبل.

أكتب هذه المقالة لعلها تجد من يستوعبها ويأخذ بها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى