تحرشات الإبداع
عمر أبو القاسم الككلي
هذه مجموعة مقالات، كتبت ونشرت في فترات متباعدة (خلال ما يزيد عن أربعين سنة)، تتخذ نقطة ارتكاز واحدة، هي أنها قراءات في أعمال سردية ليبية تتوزع بين القصة والرواية والشهادة الشخصية، وكان شاغلي فيها التركيز على الملمح الفني والجمالي (أي الإبداعي) في هذه الأعمال. أي محاولة إبراز “التحرش” الذي يمارسه المبدع بالواقع وبفن القص أو السرد ذاته لاجتراح أعمال توصف بأنها إبداعية.
هذا النوع من “الكتابة النقدية” يمكن أن يدرج تحت مصطلح “قراءة انطباعية”، وهو مصطلح يعاني بعض الغموض في المفهوم، وقدرا لا بأس به من الاستهانة، خاصة عندما يقدم نفسه بنفسه بهذه الصفة. ذلك أن هذه الصفة، أطلقها هو على نفسه أو أطلقها عليه غيره، تنفي عنه صفة العمل النقدي المنهجي الواعي بأنه يتبع منهجا نقديا محددا.
لكنني أود أن أشير هنا إلى أن غالبية الكتابات النقدية التي يكتبها أدباء عن أعمال أدباء آخرين هي كتابات نقدية انطباعية تختلف عن كتابات النقاد الممارسين المحترفين.
أحب أن أقتصر، في هذا السياق، على أمثلة محدودة.
ثمة كتاب مهم عن القصة القصيرة لقصاص آيرلندي اسمه فرانك أوكونور واسم الكتاب “الصوت المنفرد” ذو تأثير بالغ وقلما يجد المرء دراسة معمقة عن القصة القصيرة لا ترجع إليه. وهناك أيضا كتابات يحي حقي عن القصة المصرية، ودراسات غالب هلسا عن القصة والرواية العربيتين.
أعتقد أن الفارق بين الكتابات النقدية الانطباعية التي يمارسها مبدعون عن أعمال مبدعين آخرين، والكتابات النقدية التي ينجزها نقاد مجهزون بعتاد نقدي محدد، تقارب الفارق بين المتصوف والفقيه التقليدي. ففي حين يتعامل المتصوف مع القضايا العامة والدينية من خلال وجدان جياش وروح حيوية وذائقة لا تحتكم سوى إلى ذاتها، يتعامل الفقيه وفق المدونات الفقهية الخاصة بالمذهب الفقهي الذي يتبناه. وبالطبع فإنه ليس المقصود من هذا التشبيه أو المقارنة أي نوع من المفاضلة. إذ إن لكل نوع من هذين النوعين من المقاربات النقدية مزاياه وفوائده وفضائله.
ويحدوني أمل في أن ينضاف جهدي هذا إلى الرصيد الذي راكمته كتابات زملائي الأدباء والكتاب الليبيين في المجال النقدي واجتهاداتهم في تسليط قدر من الضوء على الأدب الليبي بشكل عام. هذا الأدب الذي مازال يعاني قدرا كبيرا من المجهولية حتى لدى قراء الأدب الليبيين.
* مقدمة كتاب للكاتب بعنوان “تحرشات المبدع: قراءات في السرد الليبي” جاهز للنشر.