تجمد الزمن
218TV.net مقال خاص
عمر أبو القاسم الككلي
مثلما يحدد السجن حركة الإنسان السجين من خلال حصر جسده في حيز محدد (يضيق أو يتسع)، فإنه يجمد الزمن أيضاً، حتى ليكاد أن يلغيه. ذلك أن الأيام في السجن تعتبر بمثابة نسخ مصورة عن يوم أصلي، قد تختلف عن بعضها اختلافا طفيفا متعلقا بوجود بعض الملامح الخاصة في كل نسخة ناتج عن استخدام آلة النسخ أو عيوب معينة في ورق الاستنساخ!. الزمن في السجن يتحرك في مكان محصور وحياة راكدة. مثل الشخص الذي يتحرك مراوحا في مكانه. إنه يتحرك ويصيبه من التعب ما يصيب الماشي، لكنه لا يتقدم. حين يلتفت خلفه تطالعه نفس المعالم ونفس المسافة.فالوجوه التي يطالعها يوميا ولساعات متطاولة هي وجوه السجناء الذين يشاركونه المكان لمدة قد تصل سنوات وتظل هي نفسها غالبا. والحراس الذين يتعامل معهم يوميا هم نفسهم على مدى طويل، ووجبات الطعام هي ذاتها (يوم أرز، ويوم مكرونة). وهذا التجمد يزداد صلابة بالنسبة إلى سجناء الرأي إذا كان دخول الكتب والمطبوعات إلى السجن محظورا أو شبه محظور.
هذا التجمد في الزمن له انعكاس سلبي على نفسية السجين، ومن ثم على علاقاته بـ “مُحَاييزيه” (الأشخاص المشمولين معه في نفس الحيز). فإذا تلقى إساءة ذات مرة، من سجين معه، تظل هذه الإساءة حية في نفسه، حتى لو مرت عليها سنوات!. ذلك أن الحياة في السجن آسنة، لا تتجدد، ما يجعل، على العكس، هذه الإساءة متجددة ومتواجدة، بشكل ما، في النسخ المتكررة للأيام. الزمن متوقف، لكن الإساءة تتحرك. قد يحاول الشخص تناسيها وغض البصر عنها في النسخ اليومية المكررة، إلا أنها تعود إلى ممارسة حضورها طازجة عند حدوث أي سوء تفاهم، أيا كانت بساطته، مع الشخص الذي كان مصدرها، خصوصا إذا كان مقيما معه في نفس الزنزانة. فتظل العلاقة مشوبة مهددة بانضياف شوائب جديدة إليها في أية لحظة. إنها مثل الجرح الذي لا يبرأ برءا تاما ويظل منفتحا على احتمالات النكأ.
لقد سبق لعباس محمود العقاد، الذي قضى في السجن تسعة أشهر، أن قال بهذا الخصوص في فصل بعنوان “الوقت” من كتابه “عالم السدود والقيود”* المخصص لتجربته السجنية:
“الوقت أعدى أعداء السجين، فلو اهتدى إلى طريقة يخلص بها من وقته لاهتدى إلى طريقة يخلص بها من سجنه.
الوقت في كل مكان من ذهب كما يقولون. إلا في السجن وما شابه السجن، فهو من رصاص إن أردت ثقلته وبشاعة اسمه، وهو من تراب إن أردت رخصه ومضايقته، والرغبة في كنسه!
الوقت أثقل شيء على “وجدان” السجين وأخف شيء على لسانه:
كل دقيقة فيه محسوسة محسوبة، وكل دقيقة فيه حسبة يراد إسقاطها من الحساب، وما هكذا يكون الوقت في غير السجون.” ص 84.
أو كما عبر شاعر العامية المصرية الشهير أحمد فؤاد نجم:
” مفيش فـ السجن زمن
الوقت ملوش فى السجن ثمن”.
وفي نص لي كتب في الأشهر الأولى من رحلة السجن ورد:
” تدور الأرض دورتها،
والفصول تجدد نبض الحياة.
والعصافير تزقزق كالأطفال المرحين
وتبني أعشاشها في كوى الزنازين،
[…]
وللحلم فسحة لا تطالها المخالب،
ومن يضمن الوقت، من يوقف الوقت.”
* عباس محمود العقاد، عالم السدود والقيود، منشورات المكتبة العصرية، صيدا- بيروت (لبنان). (د. ت).