تاريخ للصُدف المبعثرة!
حازم صاغية
قبل عقود، ظهر في المشرق احتمال دولة مدنيّة. تأريخنا لكوارثنا الراهنة لم يتوقّف بما يكفي عند انهيار ذاك الاحتمال. لم يتابع بما يكفي معانيه، ولا الترابط بين أطواره. وهذا ممّا يزيد حيرتنا بما يحصل اليوم، جاعلاً من يموت يموت مرّتين.
هذه الأسطر لا تزعم لنفسها ما يتعدّى إثارة عناوين مكتومة، والمغامرة ببعض الربط بين ما استبعدت العاداتُ الصلبة ربطه.
الموجة الأولى التي قصفت احتمال الدولة المدنيّة، جاءت من العراق في 1936، ثمّ سوريّة في 1949. المرتكِب كان الجيش. لكنْ في 1952، توّجت مصر تلك المسيرة. كان ذلك أيضاً على يد الجيش. انتصار 1956 حوّل الانقلاب «ثورة». مدّ ما هو مصريّ عربيّاً، وما هو عسكريّ جماهيريّاً. كذلك رفّع «البكباشي» جمال عبدالناصر إلى رتبة «زعيم للأمّة العربيّة». بعد ستّ سنوات على انقلاب يوليو، قلّد العراقُ مصر. سوريّة اندمجت في عبدالناصر اندماجاً كاملاً. بعد ذاك صارت للعراق وسوريّة طرقهما الخاصّة، المستقلّة عن الطريقة المصريّة، في الانقلاب وتصديع احتمال الدولة المدنيّة. الإضافة البعثيّة كانت مزيداً من الانحطاط داخل الموجة ذاتها.
الموجة الثانية كانت على أيدي الميليشيات المسلّحة. قصب السبق كان للبنان. في 1975، انفجرت الرغبة في الحلول محلّ الدولة. المتنافسون، اللبنانيّون منهم والفلسطينيّون، كانوا كثيرين. بعد سنوات قليلة حلّ الاحتكار الميليشيويّ محلّ المنافسة: إنّه «حزب الله». ضربَ الدولة المترنّحة. اعترفت به. ضربها أكثر. اعترفت به أكثر.
موقع «حزب الله» في الموجة الخرابيّة الثانية يشبه موقع انقلاب يوليو في الموجة الخرابيّة الأولى. لهذا لم يخطئ الذين شبّهوا حسن نصرالله بعبدالناصر. إنّهما يستطيعان إنزال الأذى على أوسع نطاق ممكن. إنّه أذى مركزيّ (تيمّناً بـ «القضيّة المركزيّة»).
لكنْ هناك فارق وهناك شَبَه.
الفارق أنّ الموجة العسكريّة كانت مهجوسة ببناء الدولة المستبدّة. الدولة القاضمة التي تقابل المجتمع المأكول. الموجة الميليشيويّة هاجسها هو الدولة الصفر مقابل المجتمع الصفر، باستثناء الطرف – الفحل الذي تمثّله الميليشيا. «الحشد الشعبيّ» في العراق، بعد «حزب الله» اللبنانيّ، قصّة نجاح أخرى.
الموجة الأولى مبالَغة في تعزيز الدولة. الثانية مبالَغة في تفكيكها. العلامة الأكثر تطرّفاً على الموجة الثانية ظهرت لاحقاً بظهور «النصرة» و «داعش» اللذين كانا انحطاطاً في الموجة الميليشياويّة مثلما كان البعث السوريّ والعراقيّ انحطاطاً في الموجة العسكريّة. هنا، مع «داعش» خصوصاً، العدم مطلق والنفي مطلق. حتّى الحاجة إلى الانضباط باستراتيجيّة ومصالح إقليميّة، على ما هي علاقة «حزب الله» و»الحشد» بإيران، تنتفي مع «داعش» و «النصرة».
ثمّ إنّ الموجة الأولى، تبعاً لصلتها بالدولة، ولو عسكريّةً وأمنيّةً، مدعوّة إلى الظهور بمظهر من يمتلك القيم والبرامج الاجتماعيّة. ازدهارها في زمن الحرب الباردة («التحرّر الوطنيّ»، «مكافحة الاستعمار والإمبرياليّة»، «التنمية»…) كان حضّاً إضافيّاً على ذلك. الموجة الثانية ليست البرامج الاجتماعيّة من طبائعها. القيم والأيديولوجيّات تُختزل «رجوعاً» إلى «أصل أوّل» مفترض.
لكنّ المشترك، فضلاً عن ضرب احتمال الدولة بطريقتين مختلفتين، وجود القضيّة «المقدّسة». في الموجة الأولى، العروبة وفلسطين، في الثانية، الإسلام وفلسطين، وعند «داعش» و «النصرة»، الإسلام وحده.
أغلب الظنّ أنّ بشّار الأسد هو الحلقة التي تربط بين الموجتين: هو، من جهة، ما بعد عبدالناصر طبعاً، لكنّه خصوصاً ما بعد أبيه وصدّام حسين. وهو، من جهة أخرى، صانع عالمنا بالشراكة مع «حزب الله» و «الحشد الشعبيّ»، وبالشراكة الضدّيّة مع «داعش» و «النصرة». فيه شيء من الجيش والحزب والعقيدة وشيء من الميليشيا والعصابة. فيه القضايا المقدّسة وفيه تدنيسها المعلن والوقح. وقد لا يكون من الصعب تعيين موقع بشّار ونظامه في هذا الانقطاع داخل الاستمراريّة. الصعب أنّ الربط بين الموجتين لا يزال يلقى مقاومة مدهشة، كذلك لا تزال المقاومة المدهشة تواجه كلّ نقد للقضايا «المقدّسة» ودورها في ما بلغناه: «هذا شيء وذاك شيء آخر». لا، إنّهما شيء واحد. الشيء نفسه. وأيُّ تأسيس لوعي جذريّ يمرّ من هنا، إلّا إذا اعتبرنا التاريخ مجرّد صُدف مبعثرة.
في نقد كهذا، سيخسر البعض أفكاراً عاشوا طويلاً عليها، ويخسرون أعماراً استثمروها في تلك الأفكار. لكنّ الأجيال الأصغر تربح أكثر وتتحرّر أكثر.