بولا يعقوبيان: هم الصوت ونحن الصدى
سالم العوكلي
“حقيقة الكثير من الأسماء التي جلدتنا خلال هذه السنوات الخمس أثبتت أن ممثلينا في هذه المرحلة المهمة كانوا كارثة على ليبيا ، ولا يليق بهم سوى دخولهم من الباب الواسع إلى قائمة العار الممتدة منذ عام 1911 إلى يومنا هذا، والتي ستظل مفتوحة مستقبلا لكل من يخون ثقة الناس فيه وضمير الوطن .لا أملك أخيراً إلا أن أبدي احترامي للعنصر النسائي في مجمل هذه السلطات اللائي أظهرن شجاعة وجدارة في أن يتصدرن المشهد السياسي ، وكن أكثر إحساسا بمعاناة الشارع الليبي، وأبعد ما يكن عن شرائهن بواسطة أجندات خارجية أو داخلية ، كما أظهرن رغم قلتهن فهما أعمق للعمل السياسي والبرلماني، وكن وطنيات فعلا في فترة التبس فيها مفهوم الوطنية . ولو كان أعضاء المؤتمر الوطني أو البرلمان جميعهم من النساء لوصلت ليبيا إلى بر الأمان ، لأنهن دعاة مصالحة وسلام، ولا يمكن أن يخرجن على الشاشات يحرضن على العنف والتقسيم كما يفعل بعض أشباه الرجال من الأعضاء الذكور، ولأن خجلهن وتربيتهن تمنعهن من التشابك بالأيدي تحت قبة البرلمان ،لأن (البلطجي) صفة ذكورية محضة . وهذا ليس غريبا عنهن فهن استمرار لتاريخ ناصع سطرته المرأة الليبية بالصبر والنزاهة منذ الغزو الإيطالي وفي حقبة التأسيس لهذا الكيان، ولأن النساء اللائي تقلدن مناصب مهمة حتى فترة النظام السابق كن أبعد ما يكون عن الفساد واستباحة المال العام. لهن التحية وكذب الهتاف الذي قال يوما: ليبيا فيها رجالة . ليس تعميما ولكن انطلاقا من عينة الساسة الذكور الذين تقلدوا مسؤولية بناء الدولة منذ انتخابات 7/7/2012.”
هذا ما كتبته في مقالة سابقة تحت عنوان “قولوا لرجال البرلمان .. ليبيا فيها نسوان”، نشرت بموقع 218 .
أتابع هذه الفترة عن كثب وقائع وتحاليل الثورة اللبنانية؛ التي دخلت بظاهرة الربيع العربي إلى منطقة أخرى، حيث المطالبة بإسقاط النظام في دولة مدنية عُرفت على مر عقود أنها التجربة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية برمتها. وقد لفت نظري في هذه الثورة حضور المرأة كما وكيفا في قلب هذا الحراك في ميادين مختلطة وليست مثل مياديننا التي فصلت فيها أسوار الإسلاميين المتطفلين على الحراك بين الرجال والنساء في الميادين؛ بما ينبئ أن المطالب بالحريات التي يرفعها هذا الحراك يقوضها مظهر الحراك نفسه؛ الذي فضلا عن الفصل الجنسي في الميادين، يطرز مطالب الحداثة السياسية بالتكبير وبشعارات فتح إسلامي جديد.
تحدثت في أكثر من مكان عن جريمة اغتيال النائبة الليبية في المؤتمر الوطني، فريحة البركاوي، في مدينة درنة ، وهي النائبة الوحيدة من بين جميع النواب التي قدمت استقالتها بمجرد نهاية ولاية المؤتمر الوطني، وهي الوحيدة التي رفضت ثمن السيارة الذي خصصه المؤتمر الوطني لأعضائه باعتبار أنها تملك سيارتها الخاصة، ورغم اتضاح من كان وراء الكثير من حالات الاغتيال في درنة إلا أن واقعة السيدة فريحة رحمها الله ظلت غامضة، والبعض يُرجع سبب هذا الاغتيال الذي نفذه قاتل مأجور لكونها عضوة في اللجنة المالية بالمؤتمر الوطني وكثيرا ما احتجت على حالات الفساد التي تملك تفاصيلها ووثائقها.
أعود للحراك اللبناني؛ حيث منذ دقائق كنت أتابع المؤتمر الصحفي للنائبة بولا يعقوبيان في الأشرفية، المنقول على قناة الجديد اللبنانية ، وهي التي دخلت البرلمان اللبناني ممثلة عن حزب “سبعة” الذي خاض الانتخابات ضمن تحالف “كلنا وطني” الواسع ــ المضاد للطائفية ــ الذي ضم عدداً من قوى “المجتمع المدني” والحركات السياسية المعارضة للسلطة. وشكلت كتلة معارضة داخل البرلمان اتسمت بالمشاكسة والحرص على تعرية قضايا الفساد وإظهارها للناس وأهمها التلوث الكبير للبيئة في لبنان . في هذا المؤتمر الصحفي، ومثلما كانت تفعل دائما في أدائها الإعلامي أو تحت قبة البرلمان، هاجمت الطبقة السياسية الحاكمة وكشفت بعض ألاعيبها وصفقاتها التي تحدثت عنها حتى قبل بداية هذا الحراك . كلامها عن الطبقة الحاكمة في لبنان ينطبق على كل المنطقة العربية باختلاف أنظمتها، لكنها بحكم الممارسة لدور “المعارضة الحقيقية” وضعت الإصبع على الجروح النازفة لهذه الأوطان المسروقة من قبل قلة تحتكر مراكز النفوذ والقرار وتحتكر القانون ومؤسسات القضاء بما يحمي جرائمها. وبعد يأسها من الحكومة والطبقة السياسية في خدمة الناس نظمّت العام 2016 ، حملة إنسانية بشعار “دفى” شارك فيها عدد من رموز الفن والسياسة في لبنان، بهدف مساعدة العائلات الأكثر فقرًا على الأراضي اللبنانية باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، من خلال جمع التبرعات العينية من خلال صناديق المساعدات التي توزعت على المدارس، والجامعات، والمراكز التجارية والبلديات، وقد وصلت هذه الحملة إلى الكثيرين مما يعيشون تحت خط الفقر في لبنان المنهوب.
وتعرضت لكثير من النقد ولإشاعات بمجرد فوزها كصوت حر ومزعج، وحسبها البعض على كتل أخرى مثل كتلة المستقبل باعتبار أنها كانت إعلامية بتلفزيون المستقبل الذي يملكه الحريري، لكن العام والنصف الذي قضته تحت قبة البرلمان كذّبت كل الأقاويل المحبطة حيث أخلصت لوعودها الانتخابية التي شاء القدر أن تُرفع الآن من قبل الناس في ميادين لبنان
بعد انتخابها من قبل دائرتها الانتخابية العام 2018 أكدت لجريدة النهار أنها لن تنضم إلى أي كتلة نيابية، قائلة: “اتخذنا في تحالف “كلنا وطني” قراراً بأن نكون المعارضة الحقيقية أي المعارضة التي تراقب وتُحاسِب، ولسنا المعارضة التي تقبل بحصةٍ وزارية أو خدمةٍ من السلطة وتغض النظر عن ممارساتها. … اللبنانيون انتخبوني لأنني صوت معارض ومسؤوليتي أن أكون عند حسن ظنهم وأبقى صوتاً معارضاً حقيقياً لا أن أكون صوتاً معارضاً موسمياً”.
وكانت قد غردت على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” بعد ما تعرضت له من تشكيك، قائلة: “الإشاعات المؤامرتية المستفحلة باتت مضحكة. لن أمثل إلا أصوات الناس التي تريد معارضة حقيقية. نلت شرف أصواتكم التي لم تقبل الرشوة ولا التخويف ولن أكون إلا صدى إرادة الأحرار ولن أكون الا #كلنا_وطني ومع التحالف العريض لقوى التغيير. مضحك تسويق أنني وديعة انتخابية”.
وقد أخلصت لهذا النذر النيابي الأخلاقي، ورغم كونها الأقرب في مشروعها لمطالب الشارع، وصوتها كان سابقا بهذه المطالب، تحاشت أن تركب الموجة مثل ما فعل الآخرون، ومغمورة بقوة أن هذا الحراك يشد من أزر أحلامها قالت في المؤتمر الصحفي: “إن الناس هم الصوت ونحن الصدى.”.
حقيقة بولا وغيرها من النساء العربيات يعكسن مدى كفاءة وقوة ونزاهة المرأة حين يتحرر صوتها من السجن التاريخي للسان المرأة وتصل بجدارة إلى المسؤولية، وطالما مجتمعاتنا مازالت تصادر أو تحاصر صوت النساء وتبعدهن عن أماكن اتخاذ القرارات فستكون الخسارات فادحة لمجتمعات ذكورية عرجاء تركض في عصر السرعة برجل واحدة.