بلبلة ولبلبة دون طحين
سالم العوكلي
يحكى أن لصوصا سرقوا قطيعا من الماعز واختفوا به في واد حتى يحل الليل، فأخذ التيس الهرم يلبلب بصوت عال ولا يسكت، فقال أحدهم علينا أن نذبح هذا التيس حتى لا يكشف مكاننا، فذبحوه، وحين ذبحوه برزت عشرات التيوس الصغيرة لتملأ الوادي لبلبة، وأدركوا خطأهم لأن هذه التيوس الفتية كانت ساكتة فقط لأنها خائفة من التيس الكبير، وتقول النهاية أنه تم كشف مكانهم والقبض عليهم واستعادة القطيع، ونهاية أخرى تقول أن هستيريا الخوف أصابتهم فأخذوا ذبحا في التيوس الصغيرة. ولأنهم منفعلون، والدم غطى عيونهم، لم تنج حتى الإناث من سكاكينهم، فأبادوا القطيع ومضوا في حال سبيلهم على أصوات عواء الذئاب الموعودة بوليمة دسمة.
في رواية “حفلة التيس” شبه التوثيقية، للبيروفي ماريو باراغاس يوسا، يستدعي واقعة تقطيع رجال مخابرات طاغية الدومينيكان، تروخيو، لأحد معارضيه، غير أن التشفّي لم يقف عند هذا الحد، بل اعتُقِل والد المعارض، وجُوّع لعدّة أيام، ثم أحضروا له وجبة دسمة من اللحم، وبعد أن تناولها أخبروه أن ما تناوله لحم ابنه المعارض، في إشارة إلى أن هذا النوع من الطغيان ينتمي في حقيقته لزمن أكلة لحوم البشر، قُتل الطاغية تروخيو عندما نصب له الثورا كمينا وهي في طريقه إلى عشيقته التي كانوا يسمنها (العنز)، لكنه لا يغفل عن ذكر تلك الجداء الصغيرة التي ولدت بعد موت الطاغية لتكبر مع الوقت وتستأنف ملحمة أكلة لحم البشر .
في يوليو 2011 ، وعندما بدأت أصوات الجداء الصغيرة تملأ المكان والسفوح المطلة على المشهد، تركتُ العمل بصحيفة ميادين التي أسسها الصحفي أحمد الفيتوري مع انطلاق ثورة فبراير، وذهبت محبطا إلى درنة، لم أخبر أحمد الفيتوري بذهابي، وحين اتصل بي الفيتوري يسأل عن سبب ذهابي، فقلت له بانفعال غنائي يليق بغنائية الثورة: خلاص يا فيتوري يبدو أن ليبيا فيها 5 مليون معمر القذافي. كنت منفعلا، والتعميمات القاسية عادة ما تكون ثمرة الانفعال السامة. قال لي الفيتوري بسرعة بديهته، وبلهجة لا تخلو من تهكم: جميل أن تكون وحدك في مواجهة 5 مليون معمر. وهذا الرد الذكي لقنني درسا حيال فكرة التعميم وفي الوقت نفسه أضمر سؤالا مفاده: هل لديك يقين أنك الناجي الوحيد من العدوى ولست قذافي تنضاف إلى الخمسة مليون؟. غير أن إجابتي المضمرة أيضا كانت تنطلق من وصف من تصدروا مشاهد الحدث وربما بالغت في العدد.
طيلة الأشهر التي قضيتها بين بنغازي ودرنة والقاهرة، لإصدار الأعداد الأولى من ميادين، كنت أتابع، كلما سنحت الفرصة، بعض الندوات التي تقيمها مؤسسات ثقافية، أو الحوارات في القنوات الليبية المحلية التي تناسلت كالجراد، وأطلع على بعض الصحف وأشباه الصحف التي تصدر آنذاك.
وكان يزعجني الخطاب الدارج الذي يحمل الكثير من جينات الأداء الإعلامي إبان النظام، والهوس المجنون بالرغبة في تصفية الحسابات والانتقام، وكانت تزعجني اللغة “الأورويلية الركيكة” ــ كما يذكرها إمبرتوا إيكو كإحدى ملامج “الفاشية الأصيلة” ــ التي تدار بها الندوات وتمتلئ بها الجرائد والفضائيات، وكانت تزعجني لغة التخوين والإقصاء والمزايدات، وكانت تزعجني خصوصا مفردة(الثوار) التي احتكرها الانتهازيون كي يكفروا عبرها الآخرين سياسياً ويقصوهم.
بعد أشهر تحررت ليبيا وسقط النظام، وكان المسلحون يرعبون الشارع ببنادقهم وعرباتهم المسرعة، كما كان يفعل أعضاء اللجان الثورية.
جرت الانتخابات التشريعية الأولى في ليبيا وفق إعلان دستوري مشوش وقانون انتخابات مفصل على مقاس الإسلام السياسي الذي كان التيار الوحيد المنظم تراتبيا وإن كان بلا مشروع، وزيّف الكثير من المرشحين هويتهم السياسية، وانتخبهم الليبيون على أساس أنهم مستقلون، ليظهروا في المؤتمر الوطني بعباءة الحزب الذي تعود لعقود على العمل السري.
وحين كنت أتابع جلسات المؤتمر الوطني، كنت أرى جلسات معادة لمؤتمر الشعب العام، وديكوراً مطابقا لا ينقصه سوى رفع اللوحات بدل رفع الأيادي، محتفظا بالخلفية الضخمة للنظام السابق (وأمرهم شورى بينهم) ومن هذه الشورى تفرعت بعد عام واحد مجالس شوري المجاهدين الإرهابية التي سيطرت على مدن بأكملها وعبر تحالف بين الأخوة الأعداء من كل التنظيمات الإرهابية التي اخترعها القرن العشرون.
كان التكتل داخل قبة المؤتمر، وتزييف الحقائق، والكولسة الغبية، واستخدام العنف لإصدار القوانين والقرارات، والانفصال التام عن نبض الشارع والرأي العام، كان كل ذلك مطابقا لما يحدث في مؤتمر الشعب العام، خصوصا وأن القائد الملهم والمفكر الذي كان يحرك الجلسات بالريموت كونترول من بعيد، خَلَفه “مرشد عام” أو مفتي ديار يحرك المؤتمر الوطني بفتاواه المكفرة لأي تيار وطني آخر، وبريموت كونترول من بعيد.
انتهت “حفلة القذافي” التي استمرت 41 من السنين العجاف ، لتلد الأرض الليبية القاحلة آلاف(القذافي)، يكملون ما بدأه؛ من تدمير للمؤسسات، والبنى التحتية، ومن تدمير لمعنويات هذا الشعب الذي عاش طيلة القرن في كنف الخوف وعدم الاستقرار.
مات الكبير وكبرت الجداء الصغيرة لتملأ أرضنا لبلبة دون طحين، وعبثا حاول كل مندوبي المجتمع الدولي أن يوقف النطاح، أو يسكت هذا الصخب التيسي الذي كشف مراتع ليبيا لكل طامع، ولكل الذئاب المتربصة.
تذهب حكومة وتأتي أخرى، يموت اتفاق ويأتي آخر، ينتهي مؤتمر وطني فيخترع مجلس دولة كحضيرة جديدة تحمي فحول القطيع، يتكاثر مجلس النواب بالانقسام كما تتكاثر البكتيريا، والوجوه نفسها تتبادل المهام مثلما حدث في عقود سابقة، وكأن هذه الوجوه هم ورثة الكبير الراحل، أو وردت أسماؤها في وصيته التي تقول لكم: ما تركت، الثروة والسلاح والسلطة مقابل أن تجعلوها “نار حمرة”.
ثمة نهاية أخرى للقصة يقترحها الحلم الإنساني؛ ستنتهي اللبلبة والتيوس واللصوص ويعود القطيع المخطوف إلى ربيعه الأصلي بعد أن قرأ الدرس جيدا.
وأعتذر عن استخدام استعارة ا”لقطيع” كاستعارة لمجتمع أنا جزء منه، لكن السياق فرضها مثلما تفرضها المناسبة ومفردات العمل على تلك الأغاني المرتجلة في مواسم جز الصوف، ورغم ذلك أقول: سنظل فعلا قطيعا ما دمنا ننتظر الحلول من خارجنا، وما دمنا نحتاج إلى راع أو زعيم أو طاغية جديد يدير بعصاه طريقة عيشنا.