بعدما خلع العباءة
فرج عبدالسلام
بالأمس استغرب المتحدثُ باسم الرئاسة التونسية، عدم دعوةِ ألمانيا لتونس لحضور مؤتمر برلين حول ليبيا، وهي الدولةُ الجارة الأقرب، والأكثر تأثرا بما يجري في ليبيا من أحداث.
كنتُ من بين كثيرين ممن تابعوا الانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة باهتمامٍ وبدهشةٍ بالغين. فتونس مثالٌ حقيقي لنجاح ثورات الربيع العربي، ولتطبيق ديموقراطية الحد الأدنى، وتمارسُ بالرغم من شُحّ مواردها المادية، نهضةً تقدمية في الحياة والعمل والسياسة بسببِ مكتسباتٍ حققها التونسيون وورثوها عن العهد البورقيبي، وأفضل دليلٍ على ذلك هو إنجازُ الدستورُ التونسي الذي يُعتبر من أفضل دساتير دول العالم الثالث، وبالتميّز في مجال الحريات حتى بمقاييس ما نصفه بالعالم المتطور.
أيضا ربما كنتُ ممّن أبدوا استغرابهم الشديد من شخصية المرشح الرئاسي قيس سعيد، وما يبدو عليه من تصلّب، والتزامٍ باستخدام لغة فصحى خشبية، كان يصرّ على دقتها والتزامهِ بصحيح قواعدها، أكثر من حرصهِ على فحواها، وما تحمل من مضمون يهمّ عامة الناس. ولا بد أن كثيرين أبدوا استغرابهم وربما استهجانهم لإقحام المرشح لقضية فلسطين، بمناسبة وبدونها، في جولاته الانتخابية، ما جعل منتقديه يصفونه بأنه يرتدي عباءة القومية دون مبرّر أو مناسبة، وبالأحرى كان عليه التركيز على قضايا الفقر والبطالة التي تطحن التونسيين.
في البدء لا بد من إبداء الاحترامٍ الكاملٍ لاختيار الشعب التونسي الذي صوّت لسعيّد بأغلبية ساحقة، ويبدو أنه رأى فيه خيارا مثاليا سيقوده إلى وضعٍ أفضل مقابل منافسه نبيل القروي الذي فاجأ الجميع بحصوله على المركز الثاني، وهو رهن التوقيف، على الرغم من مؤامرات خصومه ضده، وعلى رأسهم النهضة وكلّ الإسلاميين.
لكن ما مناسبة هذا الكلام الآن وقد انفضّ السامر، وانتهى الأمر وأصبح قيس سعيّد، سيّد قصر قرطاج بلا منازع؟ بالأمس أبدت السلطات الرسمية التونسية انزعاجها من عدم دعوة تونس للمشاركة في مؤتمر برلين المخصّص لبحث الوضع المتفجّر في ليبيا ووصفت أوساطٌ سياسية هذا التجاهل بغير المنطقي، وليصف المتحدث باسم الرئاسة تغييب تونسَ عن مؤتمرٍ يهمُّ إحدى أقرب الدول، بأنه يُعدّ خيبة أملٍ لتونس التي تَعتبرُ أمن ليبيا جزءا من أمنِها القوميّ وأنّ تسوية الوضع بها أولوية.
لكن ألم نر جميعا كيف استُقبل أردوغان في تونس أخيرا، وكيف كان يهددُ ويرسم ويخطط من وسط جارة ليبيا دون أدنى تدخل من الرئيس العروبي، وأن يُعلن على الأقل، وبكل وضوحٍ معارضة خجولة لرغبة السلطان العثماني في التدخل العسكري في الجارة ليبيا. وربما اكتفت البيانات اللاحقة، التي حاولت ترميم عثرات الرئيس المستجد والتي لجأ إليها مضطرا، بتوضيح أن تونس لن تُستخدم كمحطةٍ لمساعدة الأتراك في غزوهم لليبيا. ولتوريط تونس أكثر في الحلف العثماني، كانت زيارة رئيس البرلمان، راشد الغنوشي لتركيا لتهنئة أردوغان بنجاحة في صناعةِ سيارة.. ما أثار استياء نوابٍ كثيرين من انجراف بلادهم للاصطفاف مع السلطان العثماني ضد بلدٍ جار. ما أقوله إنه ربما أجبرت هذه المواقف الدولة الراعية إلى استثناء تونس من المشاركة في مؤتمر برلين، بعد أن رأت الاكتفاء بدعوة الأصل وهي تركيا، والتغاضي عن الفرع الذي خلع رئيسه عباءة القومية التي ارتداها خلال الانتخابات، ولم يعد رأيه محلّ اهتمام يُذكر.