بصمة مارتن سكورسيزي السينمائية
تاريخ صناعة السينما مليء بالمخرجين الذين استطاعوا تغيير مفهومها مع الوقت. حتى أن النقّاد أشاروا إلى بعض هؤلاء المخرجين، على أنهم روّاد مراحل جديدة في السينما نفسها. فبدلًا من أن تُسمى المرحلة باسم ثابت، باتت تُسمى باسم المخرج. فأصبحت لدينا مرحلة ستانلي كوبريك، مرحلة تارنتينو، وغيرهم الكثير.
لكن هناك مُخرج واحد فقط استطاع صنع اسم لنفسه في الماضي، وما زال حتى وقتنا هذا مستمرًا في تقديم أفلام جديدة. لكن بالرغم من استمراريته، إلا أنه لم يتخلَ عن أسلوبه الإخراجي المعروف، والذي من خلاله ظهر اهتمامه الشديد بالسينما الأصولية. إنه العبقري الذي عادى مارفيل كثيرًا: مارتن سكورسيزي.
ما هي أبرز علامات البصمة السينمائية لهذا المخرج الكبير يا ترى؟
الجريمة
دائمًا وأبدًا ما تحتوي أفلام مارتن سكورسيزي على عنصر الجريمة. أغلب أفلامه هي في الأساس أفلام عصابات مليئة بتبادل النيران والدماء القانية والجثث المتناثرة في كل مكان كحبّات الأرز التي فقدت رغبتها في البقاء لدى التاجر. ذلك الأمر يتجلى في أفلام كلاسيكية مثل Good Fellas، وأفلام حديثة مثل The Irishman. فبالرغم من كِبر سن المخرج، إلا أن بصمته الإجرامية في الأفلام، لم تختفِ على الإطلاق.
الجريمة أيضًا موجودة في الأفلام التي لا تتحدث عن الجريمة كفكرة رئيسية حتى. فمثلًا فيلم The Wolf of Wall Street في الأصل هو فيلم يتحدث عن طموح رجل نحو المال، حتى قام المال نفسه بتدميره. لكن في المنتصف نجد أنه للوصول للمال، يجب عليك الدخول في مضمار الجريمة. وكذلك في الأفلام العائلية التي قدمها سكورسيزي، مثل Hugo؛ كان المحفز الرئيسي لأحداث الفيلم هو سرقة البطل للطعام من جهة، وللقطع الصغيرة من متجر جورج ملييس من جهة أخرى؛ والسرقة جريمة.
اللقطات المتصلة
أو بالإنجليزية Tracking Shots. دائمًا ما يتميز أسلوب سكورسيزي بالحركة التجولية للكاميرات في لقطات متصلة. هذا يظهر بشدة في افتتاحيات أفلامه. فمثلًا إذا نظرنا لفيلمه الأخير The Irishman، سنجد أن مشهد الافتتاح كله عبارة عن حركة مستمرة للكاميرا بداية من باب دار رعاية المسنين، مرورًا بالمسنين أنفسهم وهم يقومون بالمهام الروتينية اليومية، ووصولًا إلى فرانك شيرين وهو جالس على كرسيه الأثير.
المميز في اللقطات المتصلة هو أنها تُعطيك تجربة انغماسية للغاية. فبدلًا من أن تتعرف على عالم القصة عن طريق مشاهد متتابعة ومليئة باللقطات المتقطعة، مارتن يرى أن أخذك في لقطة متصلة تسلط الضوء على أبرز معالم البيئة؛ هو أفضل شيء. والأمر أيضًا لا ينطبق فقط على المشاهد الافتتاحية، كذلك نجد تلك اللقطات المتصلة في المشاهد التعريفية بكل بيئة جديدة. ففي نفس الفيلم، عندما ينتقل أبطال العمل من شريحة عمرية لأخرى، من الطبيعي أن تتغير أماكن سكنهم، فبالتالي يأتي هنا توظيف هذه النوعية من اللقطات لإبراز معالم البيئة الجديدة.
القصص ليست خطيّة
في أغلب أفلام مارتن لا نجد قصة خطيّة على الإطلاق. في العادة ما تكون القصص الخطية عبارة عن تجسيد الكاميرا لانتقال البطل من حدث إلى حدث، وتمر معه الأيام بطريقة تصاعدية. ذلك الأسلوب نوعًا ما يعمل على جعل المُشاهد متوقعًا لما قد يحدث، ويكون مجرد متفرج فحسب. لكن أفلام المخرج تعتمد على قلب الخط الزمني أكثر من مرة، حتى تُعمل عقلك وتحاول ربط المشهد الجديد، بالمشهد الذي رأيته قبل 15 دقيقة مثلًا. قدرة المخرج على إعمال ذهن المُشاهد باستمرار، هي ما تجعل أفلامه مميزة جدًا في الواقع.
التباطؤ والتجميد
بينما سكورسيزي يتميز باللقطات المتصلة، أيضًا يتميز بالتباطؤ والتجميد.
فإذا استدعت القصة تقديم شخصية جديدة بطريقة مختصرة، فتجميد المشهد هو أبرز شيء يمكن أن يختصر في وقت الفيلم. فهنا تجميد الإطار وكتابة جملة بجانب الشخصية الجديدة، أفضل بمراحل من عمل أداء صوتي في الخلفية لتلك الشخصية، وسحب وقت كبير من الفيلم دون طائل.
والتباطؤ تكون فائدته هي إشعار المُشاهد بأهمية الحدث الذي تجسده الكاميرا أمامه. فإذا كانت أهمية الشخصية الجديدة مهولة جدًا، ولها تأثير كبير في أحداث الفيلم، سنجد أن مارتن عَمد إلى التباطؤ بدلًا من التجميد. وبهذا تظهر الشخصية وهي تقوم بفعلٍ ما (تلوِّح للجمهور مثلًا)، لكن ببطء شديد. ولكي لا يكون المشهد مملًا وتقليديًّا، يعتمد المخرج على إغراق البيئة بالكثير من عناصر الحركة. فمع تلويح الشخصية بيدها، قد تجد شخصيات أخرى تحاول احتضانها، مع وجود أوراق ملونة هابطة من السماء على جميع مَن هم بالكادر.
اللقطات الأصولية
ربما هذه نقطة لا يستطيع المشاهد التقليدي استشعارها جيدًا، لكن سكورسيزي فعلًا يُقدس السينما الأصولية.
السينما الأصولية هي السينما التي تستقي مبادئها من الأفلام الكلاسيكية. والسينما الكلاسيكية عمومًا اعتمدت على المشاهد الواسعة الصامتة أو المتحركة، أو المشاهد الداخلية المحكمة بعناية فائقة. لذلك أفلام هذا المخرج تعتمد على تصوير مدينة نيويورك بطريقة مكثفة للغاية، وتظهر فيها حركة الشارع دائمًا.
بينما المشاهد الداخلية تكون محبوكة بدقة، وتكون فيها جميع العناصر الفنية من حوار وزوايا وموسيقى وتوزيع لوني بناء على توزيع الإضاءة؛ ممتزجة بطريقة توحي بالأصالة السينمائية حتمًا. لذلك أفلام مارتن الحديثة قد تراها مشابهة جدًا لأفلامه القديمة، بل وأغلب الأفلام الكلاسيكية حصرًا، حتى في السينما الأجنبية (غير الهوليودية).
السرد الصوتي
إذا شاهدت أعمال أنمي كثيرة في حياتك، فربما قد شاهدت أنمي HunterXHunter، والذي تميز بوجود أداء صوتي للراوي في خلفية أغلب المشاهد، وبذلك اختصر الاستوديو الكثير من الوقت والمجهود. حيث بدون صوت الراوي، لاحتاج الاستوديو إلى خلق أحداث كاملة أخرى تفسر ما يحدث، أو كتابة جمل جانبية مملة تعرقل عين المُشاهد عن متابعة الحدث الذي أمامه بالفعل.
نفس الأمر ينطبق على أفلام مارتن، فقد استغل ذلك الأسلوب لصالحه جدًا، وبه استطاع توفير عشرات العشرات من الدقائق في أفلامه، ثم توظيفها في مشاهد أكثر أهمية. كما أن صوت الراوي يُدخل المُشاهد أكثر في قلب الأحداث، ويجعله متعلقًا بالراوي نفسه. والمخرج يعتمد دائمًا على جعل الراوي شخصية من شخصيات الفيلم بالفعل، وليس مجرد راوٍ غريب. وهذه النقطة تحديدًا تكشف تفاصيلًا كثيرة دون الحاجة إلى الإشارة إليها. فمثلًا في فيلم The Irishman، كان الراوي هو البطل نفسه، وهذا جعلنا نتيقن من أنه حيّ حتى آخر الفيلم؛ وهذا لأننا نستمع إلى القصة على لسانه في الأساس.
الندم والحسرة
بالرغم من امتلاء أفلام سكورسيزي بالجريمة والقتل والنبذ والسباب، إلا أنها تحتوي أيضًا على الندم والحسرة.
في الغالب عند الوصول إلى نهاية الفيلم، نجد الأبطال ينظرون إلى الماضي، ويتحسرون على الأيام التي أفنوها في أعمال لم تحقق لهم السعادة؛ بل حتى أدخلتهم في مشاكل. وفي بعض الأحيان نجد الندم أيضًا موجودًا في منتصف الفيلم، وبين المواقف المختلفة. حيث بعد اقتراف الشخصية لأمرٍ ما، وترتبت عليه نتائج غير متوقعة، قد تقف الشخصية وتفكر في فداحة الذي اقترفته فعلًا، ونرى الندم باديًا على وجهها بسهولة.
ربما هذا الأمر منبته هو التربية الدينية التي حظي بها مارتن وهو صغير. أجل، أغلب أفلامه مليئة بكل ما قد يسبب أزمات أخلاقية، إلا أن جوهره الديني يُجبره على إدخال الندم والحسرة لإرضاء النزعة الدينية-الأخلاقية في النهاية.