مقالات مختارة

بريطانيا والأبواب الموصدة

جمعة بوكليب

أليس من الغريب أن نرى خشبة المسرح السياسي البريطاني تتخلى عن تقاليدها العريقة، وتتحول، خلال ثلاث سنوات، بفعل «بريكست» إلى ساحة لمعركة انقسام ضارية، من دون شبيه في الذاكرة الحيّة، وبتكاليف باهظة، سياسياً واقتصادياً؟
هذه الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، وما أسفر عنها من نتائج، عمّقت من ألم جراح الانقسام على المستويين السياسي والاجتماعي، ووصفتها صحيفة «الغارديان» في افتتاحيتها بأنها قد: «تثبت أنها الأكثر زعزعة للنظام السياسي، في تاريخ بريطانيا الحديث». في حين أن صحيفة «التايمز» اختتمت افتتاحيتها بقولها: «من السهل القول إن بريطانيا في حاجة لترك الاتحاد الأوروبي؛ لكن نتائج هذه الانتخابات، أكثر من أي شيء آخر، جعلت من الصعوبة بمكان تحقيق ذلك».
في اليوم التالي لظهور نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وبينما كان حزب المحافظين بقياداته وكوادره يلعق جراح هزيمة منكرة، كان زعيمه ورئيس حكومته السابق ديفيد كاميرون، يقفز مع ابنه فرحاً، في «استاد ويمبلي»، مبتهجين بفوز فريقهما «أستون فيلا» وصعوده إلى «البريميرشيب».

لولا حرصه على إرضاء نواب حزبه من المعادين لوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ورضوخه لضغوطهم قبل انتخابات 2014، بإجراء استفتاء عام حول وجود بريطانيا في أوروبا، لما دخلت بريطانيا في نفق ضيق منذ يونيو (حزيران) 2016. لا أحد يعرف، حتى الآن، كيف ستخرج منه.

رأس كاميرون كان أول الرؤوس التي أطارها سيف «بريكست»، ثم، بعد سنوات ثلاث صعاب، لحقه رأس تيريزا ماي، وما زالت هناك رؤوس أخرى، في انتظار أن يحين دورها القادم حتماً.

نتائج الانتخابات، كما ظهرت في عدة عواصم أوروبية، لا تحمل في جرابها سوى النذير بما قد يحدث في الدورة البرلمانية القادمة؛ حيث من المتوقع أن تتحول مسألة اختيار رئيس جديد للاتحاد لخلافة رئيسه جان – كلود يونكر، إلى ساحة صراع، وبعناصر ومحتويات مختلفة عن سابقاتها، وبمذاق لاذع، وخاضع لتنافس ألماني – فرنسي، ولدخول منافس جديد ممثل في الحركتين القومية والشعبوية إلى الحلبة، آخذين في الاعتبار الخسائر التي منيت بها أحزاب يمين الوسط، الأمر الذي سيقلل، إن لم يضعف، بشكل خاص، من فرص المستشارة أنجيلا ميركل في تنصيب النائب الألماني مانفريد فيبر، الذي يقود الحزب الشعبي الأوروبي، داخل البرلمان، الذي يعد حزبها عضواً فيه.

في بريطانيا، ووفقاً للإحصائيات الرسمية، شارك 17.2 مليون ناخب في الانتخابات. حصل حزب «بريكست» على عدد 5.2 مليون صوت، أي 31.6 في المائة من مجموع أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية، مما يعني حصوله على عدد 28 مقعداً من مجموع 64 مقعداً محتملاً من مقاعد البرلمان الأوروبي البالغة 750 مقعداً. وحصل حزب الديمقراطيين الأحرار على عدد 3.2 مليون صوت، بنسبة 20.3 في المائة، و16 مقعداً. حزب العمال جاء ثالثاً بنسبة 14.1 في المائة، و10 مقاعد. وجاء «الخضر» في المرتبة الرابعة بنسبة أصوات 12.1 في المائة، و7 مقاعد. وترنّح «المحافظون» في سقوطهم إلى المرتبة الخامسة، لأول مرة، بنسبة أصوات 9.1 في المائة، و4 مقاعد. جاء بعدهم حزب اسكوتلندا القومي، بنسبة أصوات 3.9 في المائة، و3 مقاعد.
الفوز الكبير الذي حققه حزب الـ«بريكست»، بعد ستة أسابيع من تأسيسه، بقيادة نايجل فاراج، أربك الحزبين الرئيسين، وأثار الفزع في صفوفهما. كان «المحافظون» الأسبق إلى رد الفعل، بإقصاء زعيمة الحزب ورئيسة الحكومة عن منصبيها، والبدء سريعاً في ترتيبات عملية انتخاب زعيم جديد، بحماس ورغبة في الخروج من الاتحاد، لا تقل عن فاراج.

حزب العمال، هو الآخر، لم يجد مفراً للهروب من الهزّة التي أحدثها حزب فاراج، إلا بمحاولة زحزحة نفسه عن موقعه السابق، عبر وضع مزيد من الضغوط على زعيمه جيريمي كوربين. ورضخ كوربين، أخيراً، للضغوط معلناً تعهده بدعم إجراء استفتاء آخر، على أي اتفاق خروج من الاتحاد مستقبلاً. في الأشهر الماضية، كان موقف كوربين هو أن يبقى إجراء استفتاء آخر خياراً موجوداً على المنضدة، لوقف ضرر ما قد يسببه «المحافظون» بقرارهم الخروج.

هذه النتائج، رغم فوز حزب «بريكست» الملحوظ، أبانت، استناداً إلى الإحصائيات الرسمية، التي نشرتها وسائل الإعلام، أن نسبة أعداد الناخبين الداعمين للبقاء في الاتحاد أكبر من نسبة أعداد المطالبين بالخروج، ولو حدث وجرى استفتاء آخر حول البقاء من عدمه في الاتحاد الأوروبي، وانعكست هذه النسب العددية في النتيجة النهائية، فإن بريطانيا لن تخرج من الاتحاد.
لكن العودة إلى المربع الأول، وإجراء استفتاء آخر، لا مكان لها في حسابات الحزبين الرئيسين، حتى الآن. وبالتأكيد ليست، كذلك، في حسابات تسعة مترشحين لانتخابات زعامة حزب المحافظين المتوقعة قبل نهاية شهر يوليو (تموز) 2019.

الكاتب الليبي المرحوم صادق النيهوم، قال ذات يوم: إن كنت سائراً في طريق ووجدته مسدوداً، فهذا لا يعني أن عليك التوقف فقط؛ بل والعودة، من الطريق نفسه، إلى النقطة التي انطلقت منها!
فهل يحدث ذلك؟

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى