باليرمو: الحل في أن “تحلوا عن سمانا”
سالم العوكلي
انتهت حفلة، أو وليمة، أو عزومة باليرمو، دون أية نتائج تذكر، بل ربما أسهمت مرة أخرى في توسيع الهوة بين أهواء الأطراف. الأطراف الليبية التي كانت توزع الابتسامات من جميع الألوان على الوفود الأخرى وتتبادل التكشيرات الليبية الأصيلة فيما بينها. انتهى الحوار الصقلي الخالي من الحوار، ومن جديد يعود البعير الليبي، المربوط برسن، إلى وتد اتفاق الصخيرات الذي أكل عليه الزمن وشرب حتى الثمالة، ولاذ من جديد سلامة بالمؤتمر الوطني الجامع كمحطة أخرى، ربما تكون الأخيرة، ينتظر فيها الليبيون اليائسون قطار الخروج من الأزمة في صحراء لا تمر بها سكة حديد.
وسيعود حجيج باليرمو من الليبيين دون أن يمسحوا ذنوبهم أو يلعنون الشيطان أو يرجمون جمراته المشتعلة في دواخلهم أينما طافوا أو سعوا أو وقفوا. شياطين تتلقى أوامرها من شياطين أخرى إقليمية وكونية، تنتقل معهم من طاولة إلى طاولة تملي عليهم ما يقولون وما يفعلون.
هذه السياحة للأزمة الليبية بين مدن وفنادق العالم، التي يعودون منها كل مرة بألبوم صور، مللها الليبيون وقرفوا منها، ومن حوارات في أذنها وقر لم تتسع لها إحدى أكبر دو العالم مساحة، واختارت شارعا ضيقا وفندقا ضيقا في جزيرة ضيقة، لأجل لقاء ضاق الذي تضيق بهم الحياة يوميا ذرعا.
لا أحد ذهب باحثا عن الحل، لأن الحل يعني نهاية صلاحياتهم وربما بداية وضعهم خلف قضبان السجون جراء الجرائم التي ارتكبوها في حق ليبيا والليبيين، لكنهم جميعا ذهبوا خوفا من عقوبات دولية تضعهم في قائمة المعرقلين للحل. لا أحد ممن يقطعون المسافات غربا وشرقا وشمالا وجنوبا يريد الحل لأنهم يعرفون أن الحل الوحيد في أن “يحلوا عن سمانا” هذا حال لسان كل ليبي أعجزه حل ما لا يحل: حلوا عن سمانا وأرضنا جميعكم، ودعونا نتعامل مع تركتكم البائسة التي تضاف إلى تركة النظام السابق، من الفوضى والتناحر والخراب والكذب والنفاق، فلا حل إلا من داخل ليبيا حين تزال العقبات أمام مصالحة وطنية لا يستطيع أن يقوم بها إلا حكماء وأعيان ليبيا داخل ليبيا، دون الحاجة إلى تذاكر طيران أو غرف فنادق فخمة أو المشي على فرش أحمر.
لا ضوء في آخر النفق، طالما الأسماء التي لا تريد حلا، والتي تمارس تصفية حسابات شخصية، مازالت في المشهد، وحين تفقد السفينة البوصلة وتضيع في لجة البحر بسبب طاقمها المخمور أو فاقد الذاكرة، لا حل سوى تغيير هذا الطاقم برمته، والعمل الجدي على رسم خارطة طريق جديدة خالية من إدراج كل من تلوث بعفن هذا المرحلة الانتقالية، التي لا شي انتقل خلالها إلا الكثير من الليبيين إلى المقابر الجماعية أو دهاليز الإخفاء القسري أو المنافي.
تابعت الكثير من مشاهد قمة باليرمو، التي يلتقي فيها المتنافسون على مناطق النفوذ من خارج ليبيا وداخلها، لكن ما لفت نظري في الصور المنقولة هذه العنطزة التي يظهر بها الليبيون وهم يمشون مرحا في ردهات المؤتمر، وكأنهم قادمون من دولة فعلا، بينما هم قادمون من خرابة زادوها خرابا اسمها الافتراضي على جوازات سفرهم: دولة ليبيا. يسيرون على فرش أحمر وكأنهم يسيرون على درب طويل من دماء الليبيين التي سفكوها أو تسببوا في سفكها في حمى صراعهم على النفوذ والسلطة والمال.
بينما وفود من الدول القوية والناجحة والمتحضرة يظهرون في الصور متواضعين عفويين أمام شعوبهم القادمين من أجلها ومن أجل مصالحها.
ذكرتني هذه العنظزة المقرفة بالقذافي، حين كان يمشي كالطاووس رافعا رأسه إلى أسقف مقرات المؤتمرات العربية والدولية، وهو قادم من بلد استلمها على طبق من فضة وحولها إلى خرابة، قادم من بلد الفوضى والخراب والسجون المكتظة والجثث المجمدة في الثلاجات، ومن تردي الخدمات الصحية والبنية التحتية والتعليم وكل القطاعات، وكأن الدولة الناجحة بالنسبة له تختصر في ممثل لها يهدر ويزبد ويسب العالم كله.
ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي ما يلي” أقول، بتشاؤم موضوعي، أن مؤتمر باليرمو لن يحقق شيئا لليبيا لأنه كرنفال إيطالي لا علاقة له بالليبيين أو بليبيا، وعبر استدعائه لأطراف ليبية غير شرعية يسعى للحصول على شرعية دولية تفوض إيطاليا لإدارة الملف الليبي وفق مصالحها، أو بالأحرى مصالح اليمين الحاكم فيها الذي يستثمر شعبويا في الأزمة الاقتصادية الداخلية وفي ملف المهاجرين الذي يهدد صفاء العرق الروماني. وسينحصر نجاحه في تقويض ما وصل إليه مؤتمر باريس الذي تفاءل به الليبيون، على الأقل باعتبار فرنسا إحدى دول الحلفاء التي أنقذت ليبيا من نير اليمين العنصري الإيطالي إبان الحرب العالمية الثانية، وباعتبار فرنسا أسهمت بقيمها الجمهورية في إدارة التحول الديمقراطي في تونس الفرانكفونية التي تعتبر أنجح تجارب الربيع العربي”.
لذلك فالنجاح الوحيد لمؤتمر باليرمو، هو إجهاضه لمؤتمر باريس، ونيل نقاط المباراة كاملة في هذه اللعبة الأوروبية بكرة الأزمة الليبية التي مثل كرة القش تكبر كلما تدحرجت والتقطت مزيدا من القش، ولا قشة يتعلق بها الغرقى الليبيون، ولا قشة تقطع ظهر بعير الأزمة التائه في الصحراء.
كان الفشل مصيره قبل أن يبدأ، لأن ما بني على باطل هو باطل، ولأن كل المدعوين من أجل حل للأزمة الليبية لا يريدون في قرارة أنفسهم حلا لهذه الأزمة التي مازالت تعطيهم الشرعية كإطفائيي حرائق هم من أشعلوها، ومدتها هي مدة تمتعهم بهذه السياحة المجانية، ومن الطبيعي أن يحرصوا على تطويل مدة هذا العقد المبرم مع الفشل ما وسعهم ذلك. ولأن الحكاية بالمختصر غير المفيد، إيطاليا دولة تعاني من أزمات اقتصادية داخلية طاحنة، وليبيا، بدون دولة تقريبا، تعاني من أزمات داخلية طاحنة، وإيطاليا تريد حل أزماتها الداخلية الاقتصادية الطاحنة عبر حل أزمة ليبيا الطاحنة منفردة بين القوى المتطاحنة، وهذه المعادلة منطقيا ورياضيا نتيجتها صفر، لأن العامل المشترك المضروب في الأزمتين حاصل مجموعة صفر.
أو كما يقال: المريض الإيطالي متكئ على ميت ليبي.