اليوم العالمي للفساد: كل عام وأنتم بسعادة
سالم العوكلي
اليوم هو اليوم العالمي لمكافحة الفساد، يعن لي أن أسميه (اليوم العالمي للفساد) لأن كل عام يزدهر الفساد ويقوى ويفتح فروعا ويزداد عدد معتنقيه، ولأن هذا اليوم الذي تتحفنا فيها المؤسسات الدولية بإحصائيات وقوائم مفجعة عن النهب تُرسم فيها استراتيجيات جديدة لتطوير مؤسسات الفساد التي أصبحت شبه رسمية، وتمثل الطبقة الأرستقراطية الجديدة التي يزداد حجمها سنويا. المركز الدولي للمحاسبة يبين أن مقدار المبالغ المسروقة 2.5 تريليون سنويا في العالم المنصرم، ما يشكل 5% من الناتج العالمي، وهي تزيد بإطراد كل عام .
وهذا العام أيضا معظم الدول العربية وبكل جدار تتربع في أول قوائم الفساد وآخر قوائم الشفافية.
في ليبيا التي تفشى فيها الفساد المخطط له من عقود، يُعتبر هذا اليوم هو يوم (عيد) الفاسدين يأحذون فيه عطلة ويتفقدون أحوالهم ويرسمون خطط النهب المدروسة وغير المدروسة للعام الجديد.
منذ خطاب النقاط الخمس جُهِّزت البنية التحتية للفساد في ليبيا، عبر ما سمي بالثورة الإدارية وتعطيل كافة القوانين السارية، وتحت شعار “الشعب يراقب نفسه بنفسه” حُيِّدت كل مؤسسات الرقابة وألغي ديوان المحاسبة وكل جهات االمحاسبة التي أرستها دولة الاستقلال، لتعود بأشكال جديدة مع بيان سلطة الشعب وبداية عصر الجماهير حيث تحولت إلى حلقة من حلقات الفساد الذي تحول إلى مافيات جماهيرية تحمي بعضها البعض وتحمي أعضاءها المخلصين.
حين عملتُ لسنوات قليلة في قطاع الزراعة، رأيتُ عن كثب كيف يتحول الفساد إلى ثقافة، وإلى محمية شاملة، وإلى مناسبة للتبجح حين أصبح توطينه في قيم المجتمع كمرادف للشطارة والنجاح المهني. وسأروي حكاية هي نموذج للصوص المال العام في ذلك الوقت، المعلنين عن أنفسهم بتبجح ودون خجل لأنهم يدركون أن ما يفعلونه ضمن إستراتيجية دولة جديدة تبشر الجميع بالسعادة. وفي المقابل أصبح من يتصدى لهم يسمى واشيا (بصاص) وهي صفة مزدراة في سلم القيم الاجتماعية ومهينة بعكس االسارق.
كان لص يعمل معنا (وأقول لصا تجنبا لمفردة فاسد التي لها في لهجتنا معنى آخر غير محبب) وكان هذا اللص أو المختلس علنا يتحدث عن سرقاته علنا، ولأنه شبه أمي قلت له مرة : لو أن لديك شهادة يا حاج لاخترقتَ الدولة كلها. فضحك وقال بلهجته الساخرة وخفة دمه: لو عندي شهادة راني حمار كيفكم (في ذلك الوقت من تتجاوز سرقاته المليون يكني “الحاج” حتى لو لم يزر الأراضي المقدسة أبدا) . كان يقول علنا : لا أنا شبعت ولا الدولة أفلست. وحين قال له مرة أحد الشباب : لماذا لا تتقاعد وتتفرغ لعمل خاص بعد أن أصبح لديك رأس مال قوي؟ . فقال له: وحياتك ما نطلع منها إلا بجبّرها. (والجُبّر جامع جابر والجابر هو احد العمودين اللذين تنصب عليهما الخيمة/ البيت) بمعنى أني لن أكف عن السرقة حتى تتهاوى الزراعة، وهذا ما حدث في النهاية لأنه لم يكن وحده ولكنه عضو في عصابة كاملة تحمي بعضها البعض، وميزته أنه من القلة الشفافة التي لا تخفي فسادها وتحيله إلى كوميديا خضراء كثيرا ما تكون مدار حديث العاملين أثناء وجبة الفطور.
حين حصلت مشاكل داخل العصابة فوجئنا بقرار يحيل هذا الحاج إلى العمالة الزائدة، فاعتقدنا ان صلاحيته أنتهت، وبعد أسبوع عاد بقرار آخر إلى الكادر أقوى وفي منصب أكبر، ثم عرفنا أنه طيلة فترة عمله كان يجمع وثائق فساد لمسؤولي الزراعة الكبار، وحين أطلعهم على ما لديه وذهب إلى بيته، جمعوا أنفسهم وزاروه في بيته بخروف وأعادوه فاسدا معززا مكرما وعضوا مميزا في العصابة (فاتورة الخروف حُمِّلت على قطاع الزراعة كأدوات قرطاسية) . لقد تقاعد كل هؤلاء ورحل بعضهم إلى بارئه دون أن يُستدعى واحد منهم للتحقيق، حيث فهمت ماذا قصد الحاج حين قال لو أن عندي شهادة راني حمار كيفكم. وما نراه الآن من تفشي رأسي وأفقي للفساد هو من سلالة تلك الثقافة التي رُسخت على مدى سنين طويلة حيث أصبح كوجيتو الوجود في عصر الجماهير (أنا نزيه إذاً انا حمار).
كان لي صديق يعمل في قطاع الصحة، رسام ومهووس بالسينما لدرجة أنه كان يتصرف في حياته اليومية وكأنه بطل فلم سينمائي، شاهد الفساد المنتشر في قطاع الصحة فقرر أن يشن عليه هجوما مقتديا بأحد الأفلام المصرية الذي انتصر فيه النزيه في النهاية ووضع الفاسدين خلف القضبان، وبدأ بجمع الأدلة وكتابة التقارير وإرسالها إلى المسؤولين الكبار في طرابلس، وخلال كل ذلك كان يحس أن الكاميرات مسلطة عليه وان المخرج النزيه سيرسم له نهاية سعيدة حين يضع الفاسدين خلف القضبان، لكنه بعد كتابة كل تقرير كان يُستدعى إلى مكتب المسؤول فيريه نسخة من التقرير الذي كتبه، فيُصدم ويقول له : هذا بعثته إلى طرابلس كيف وصل إليك؟ فيضحك المسؤول ويطلب منه بلطف أن يكف عن ذلك، لكن الفلم بالنسبة له لم ينته ومازال واثقا بالنهاية السعيدة، وإن ما يحصل مجرد عُقَد درامية لإطالة زمن الفلم وجعله أكثر تشويقا. ولأنه لم يكف وجد نفسه فجأة محالا برسالة إلى التجنيد العام. كان فنيا مهما والقطاع في حاجته، لكن التجنيد العام كان وقتها منفى أي معكر لصفو الفساد. وبعد أشهر قليلة وجد نفسه في حرب تشاد، وعاش الحرب أيضا كأنه بطل فلم حربي بإنتاج ضخم، نجا باعجوبة من الحرب وعاد بصمم في أذنيه جراء دوي القذائف والصواريخ، وما عاد يسمع جيدا حكايا الفساد، مدركا ان الحياة تختلف تماما عن خيال السينما المتفائلة، وأن المخرج فيها ينتصر للقوة ولا يتعاطف مع أبطال الهامش الضعفاء.
ليست هذه حكايات من نسج الخيال لكن لو أطلع العاملون معي في الزراعة في ذلك الوقت لعرفوا عمن أتحدث، ولو اطلع عليها أصدقائي وأصدقاء بطل الفلم المغرر به لعرفوا على من أتحدث .
هذا فساد عايشته وهو فساد جزئي من هامش الهامش، نسبة إلى الفساد المركزي الكبير، حيث كانت التقارير التي ترسل إلى المسؤولين الكبار هبة ونعمة تجعل مرؤوسهم طوع أمرهم، ولكن ما أردت قوله أن هذا الفساد المنتشر الآن يقوم به خريجو أكاديمية الفساد الكبرى التي أقامها عصر الجماهير وشجعها ودعمها بمساندة القطاع العام الذي كان يعطي دروسا عملية لتنمية هذه المهارات إلى أن وصل الفساد إلى هواية سلسة لا تحتاج حتى إلى مهارة.
أعتذر عن أي تشويش طال هذه السطور لأن ضجيج البوكلين والجرافات المسروقة التي تحفر أرضا مسروقة باموال مسروقة كانت تجتاح خلوتي وأنا أكتب.
وبمناسبة اليوم العالمي للفساد أقول لفاسدي ليبيا : كل عام وأنتم بخير أعاده الله عليكم بالسحت والبطر.