الوردة، هي أيضاً تبكي
أدونيس
– 1 –
«الجمهور» يحلّ محلّ «النّخبة» في الغرب الأميركيّ – الأوروبّي. هذه ظاهرةٌ «انقلابيّة» في تاريخه الحديث. مع ذلك، يبسِّطها كثيراً أولئك الذين يتمّ هذا الانقلاب ضدّ سلطاتهم وهيمنتهم السياسيّة – الاقتصاديّة، والذين يسمّون أنفسَهم «يساراً». يُبسّطونها إلى درجة أنّهم يطمسونها بالقول أنّها «صعود» اليمين، بتنويعاته جميعاً. وهي، في الواقع، أبعد من ذلك وأكثر تعقيداً.
أفي هذه الظّاهرة ما يشير إلى فشل «الديموقراطيّة»، بوصفها ممارسةً سياسيّة لم تكن، في الخبرة العمليّة، إلاّ نوعاً آخر من الطّغيان، بأقنعةٍ عديدة متنوّعة: عنصرية، رأسماليّة، استعماريّة – إضافةً إلى «خسوف» القيم الإنسانيّة التي تتبنّاها الديموقراطيّة – خصوصاً تلك المرتبطة بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وحرّياته بعامّة.
أهي، إذاً، ظاهرة تستند إلى خبرة «الجمهور» العمليّة الحياتيّة، أم هي مجرّد «غضب» يُرَوَّض لاحقاً، في شكل أو آخر؟ أم لعلّها تُشير إلى ما هو أعمق:
السّفر البعيد عن «الثورة»،
والعودة المُهَيَّمة إلى «البربريّة»؟
أم أنّ المسالة كلُّها، بمأساويّتها كلّها، ليست على مستوى التحوّلات الإنسانيّة الحضاريّة العامّة أو «الثقافيّة» الخاصّة، إلاّ مجرّد «عبثٍ» تاريخيّ:
أفق يتحوّل أحياناً إلى قفا،
وقفا يتحوّل أحياناً إلى أفق.
أهي عبقريّة اللغة وحروف الكلمات، أم عبقريّة اللعب الكونيّ؟
– 2 –
«أوشفيتز – بيركينو»: مكانٌ وحّدَ الوعيَ الأوروبيّ، ووحّد السياسة الأوروبّية في كلّ ما يتعلّق بالشّعب اليهودي، ودولة إسرائيل، دعماً لهما، ودفاعاً عنهما. ففي هذا المكان، أبادَت النازيّة مئات الآلاف من البشر الذين كانوا يهوداً في أغلبيّتهم.
إنسانيّاً، نتفهّم أوروبا في معزل كامل عن النّتائج السياسيّة التي أدّت إليها هذه الإبادة، بخاصّة في فلسطين. والسّؤال، إذاً، السّؤال الأساس الذي يجب أن نطرحه، بعد مرور نحو سبعين سنة على نشوء إسرائيل، وبدايات تشتّت الشعب الفلسطينيّ، هو السّؤال التالي:
لماذا لم تخلق الكارثة الفلسطينيّة في وَعْي العرب وأخلاقهم، «وحدة» تشبه تلك التي خلَقَتها الإبادة في أوشفيتز – بيركينو في وعي الأوروبيين؟
– 3 –
يمكن أن ننظر، اليوم، إلى «الربيع العربيّ»، وفقاً للتسمية الأميركيّة – الأوروبيّة، بوصفه مسرحاً كونيّاً مُثِّلَت عليه المشاهد الأولى لتحوّلاتٍ في اتّجاه التّأسيس لمجتمعاتٍ جديدة، وسلطاتٍ جديدة، ومؤسَّساتٍ جديدة.
دائماً كانت حيويّة العالم الإسلاميّ العربيّ تتمثّل في الأفراد، وليس في السّلطات ومؤسَّساتها، وذلك بسبب من البنية السياسيّة الاجتماعيّة المُغلَقة التي تنهض عليها.
هكذا رأينا في التّاريخ العربيّ ونرى اليوم، تمثيلاً لا حصراً، أطبّاء كباراً، ولا نرى مستشفيات أو مراكز صحيّة كبيرة. ونرى أساتذةً جامعيين كباراً، وعلماء مبعثرين في العالم، لكن لا نرى جامعة كبيرة واحدة، أو مراكز كبرى للبحوث العلميّة في مختلف الميادين. ونرى شعراء وموسيقيين وفنّانين كباراً، لكن لا نرى مراكز كبرى علميّة أو معاهد كبرى فنّية أو متاحف كبرى للفنون القديمة والحديثة تليق بتاريخ العرب. ولا نرى حتّى مركزاً واحداً متميِّزاً خاصّاً بالشعر، وضعاً، ومكانةً ودوراً ومصيراً – وهو، إلى جانب الدّين، تراث العرب الأوّل.
– 4 –
استطراداً، وفي أفق ما تقدّم، علينا أن نطرح كذلك أسئلةً كثيرة في طبيعة العلاقات التي تقيمها السّلطات العربيّة مع الديموقراطيّات الأميركية – الأوروبيّة. وأقتصر هنا على طرح سؤالٍ واحد:
هل تؤمن هذه الديموقراطيّات بقدرات المسلم العربيّ على أن يكون ديموقراطيّاً، حقّاً، مثل المواطن الأميركيّ، أو الأوروبيّ؟ وهل ترغب في أن يصبح كذلك؟
الأرجح أنّها، على العكس تماماً، لا تنظر إلى المسلم العربيّ إلاّ بعين إسرائيل التي ترى أنّ الكلام على نشوء ديموقراطيّاتٍ عربية، متهافِتٌ على جميع المستويات. وترى، تبعاً لذلك، أنّ إسرائيل هي رمز الديموقراطيّة الوحيد ومكانها الوحيد في العالم الإسلامي – العربيّ، خصوصاً أنّ إسرائيل تنظر إلى أنّ القول بإمكان نشوء مجتمع عربيّ ديموقراطيّ حقّاً، إنّما هو شكلٌ من عداء للديموقراطيّة الإسرائيلية ومن العدوان على دولة إسرائيل.
في ضوء هذا كلّه، يمكن القول إنّ «الربيع العربي» ليس مجرّد ربيع عربيّ، وإنّما هو «ربيعٌ كونيّ».
– 5 –
هذا كلّه يُعيدنا، من بعض الوجوه، إلى المخيّلة الفلسفيّة العربيّة في القرون الوسطى التي كانت تُعنى بالتمييز بين «فلك الإنسانيّة»،
و»درَك الوحشيّة»، وهي عودةٌ تتيح لنا بدورها أن نرى في هذا الربيع حرباً كونيّة، لكن في صورة جديدة. فهي حربٌ تتمُّ «موضعيّاً»، بلداً بلداً، وقسطاً قسطاً، ومرحلة مرحلةً في اقتتالٍ داخليّ وتدمير ذاتيّ يفرضان علينا أن نتساءل، وفقاً لتلك المخيّلة: هل أخذ الإنسانُ المتمدّن، الإنسانُ الغربيُّ، خصوصاً، ينتكِسُ ويسقط من «فلك الإنسان» إلى «دَرَك التّوحَُش»؟
ربّما نحتاج للإجابة عن هذا السّؤال إلى أكثر من داروين وإلى أبعد من فرويد.
– 6 –
هل الإنسان، في هذه البقعة العربيّة من العالم، هو الطّائر الوحيد الذي يكره جناحَيْه؟
– 7 –
أعماقُ الصّحراء نشيدٌ دائمٌ
في مدْح الغابة،
أعماقُ الغابة نشيدٌ دائمٌ
في مدح الصّحراء:
المديحُ فنُّ الطّبيعة الأوّل احتفاءً بالإنسان.
– 8 –
تمتلئ الحياة الثّقافيّةُ في العالم كلّه بكتّابٍ
يفكّرون ويكتبون ويعملون
كمثل مَن يُطالِب القمحَ
بأن يهضمَ معدةَ النّمْل.
– 9 –
ثمّةَ زواج
بين الحبر واللغة من أجل إنجاب
كائناتٍ لا تموت تُسَمّى الصُّوَر.
– 10 –
حارسُ الأجنحة القديمُ،
يضعُ على رأسه قُبَّعةً
في شكل بندقيّةٍ حديثة.
– 11 –
حصانٌ طلْقٌ
يُربَطُ بآخرَ مُقَيَّد:
أهذه هي ثقافةُ الحداثةِ العربيّة؟
– 12 –
من زمَنٍ،
لم أسْتَرِق السّمعَ إلى الكواكب
وهي تتحدّثُ في إصطَبْلٍ حديثٍ للتّاريخ،
مع آلات المستقبل،
وفرسانِها الإلكترونيّة.
– 13 –
غالباً، يحبُّ الكلامُ
أن يقلِّدَ الماضي،
غيرَ أنّه أحياناً، يحبُّ أن ينزلَ
ضيفاً دائماً على حِرْباء المعنى.
– 14 –
يعيشان معاً،
لكن لا يعرف أحدُهما الآخر،
إلاّ إذا وضعَ قناعاً.
– 15 –
أظنّ أنّنا لم نبدأ بعد، نحن العرب،
سيرَنا على دَرْبِ الآلام.
تلك التي عرفناها لم تكن إلاّ
إعداداً واختباراً لجهاز الهَضْم الكونيّ
الذي يسهرُ علينا ويرعانا.
– 16 –
لا أحبّ هذا الزّمَن،
لكن لا أحبّ أن أقتله بسيف الأبديّة.
– 17 –
ليس لديهم إلاّ خطواتهم،
وليس أمامهم أيّة طريق:
حصارٌ ذاتيّ، أم «عبوديّة مختارة»؟
– 18 –
طفلٌ يبكي وحيداً، وإلى جانبه وردة.
الوردةُ هي نفسها تشاركه البكاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية