الهولوكوست الليبي
سالم العوكلي
تعرفت على الروائي الأريتري، أبوبكر حامد كهال، عندما كان يقيم في مقر رابطة الأدباء والكتاب الليبيين بحي الأندلس بطرابلس، مقابل تقديمه لخدمات المقهى لرواد المقر، ونشأت بيني وبينه علاقة صداقة حميمية بما يحمله هذا المنفي الأبدي من ثقافة ونبل وروح تسامح شاسعة. تواجد في ليبيا على الضفاف الجنوبية لأوروبا لحوالي ربع قرن، دون أوراق رسمية، وهو يحلم بالهجرة إلى الضفاف الأخرى للمتوسط، وكان دائم التردد على مراكز الهجرة غير الشرعية التي أقامها النظام السابق بشكل رسمي على بعض شواطئ المنطقة الغربية القريبة من إيطاليا، لكنه كان كل مرة يفشل في الرحيل، وهناك التقى بالكثيرين ممن قطعوا الصحراء الكبرى حالمين بالوصول إلى جنة أوروبا، عبر محطة ليبيا التي صنعتها الجغرافيا، وأدارها فيما بعد توجه النظام الليبي السابق نحو ردم أوروبا بالمهاجرين الأفارقة، تلبية لمقولة رأس النظام “السود سيسودون في العالم” ، واستجابة لقناعته بأن هذه الأمواج من المهاجرين من حقها أن تلحق بثرواتها التي سرقها الاستعمار الغربي.
محاولات الروائي، كهال، المتكررة هي التي أنتجت في النهاية روايته المميزة “تيتانيكات إفريقية” التي صدرت قبل أن تواتيه فرصة الهجرة التي لم تتحقق إلا بعد انتفاضة فبراير وقبيل أن يتحول الساحل الليبي الغربي إلى سوق نخاسة كبيرة يديرها ساسة وتجار متوحشون.
تبدأ الرواية بعبارة “كنت مرهقاً من التجوال والمشاوير الكثيرة لمقابلة سماسرة التهريب” وهنا تظهر مهنة جديدة ترتزق على رغبة الهروب من الوطن ومن القارة ، فلكل مأساة تجارها الذين يعرضون الخدمات حتى وإن كانت على بوابة الموت. هؤلاء السماسرة يستعيرون من جديد مهنة تجار الرقيق، وإن كانت الأحوال مختلفة، فإن المصير ربما أكثر قسوة . كان رحيل الرقيق مربوطين بالسلاسل إجبارياً وكان تمسكهم بالوطن أسطورياً، أما في حالة سماسرة التهريب فالرحيل اختيارياً، بل وبرغبة هستيرية لا توقفها كل الأساطير التي أدخلها الروائي في نسيج الرواية.
كان المهربون إبان النظام السابق رجال أمن يعملون ضمن دوائر سياسة النظام المشاكسة لجيرانه الشماليين، وكانوا يتقاضون مبالغ عن كل شحنة يرسلونها في غفلة من خفر السواحل الإيطالي، لكن معاملة المهاجرين كان بها قدر من الإنسانية في تلك الفترة، ولا تخلو من مهنية المهرب المحترف، فمن لا يستطيع الوصول عادة ما يسترجع المبلغ الذي دفعه، كما أن المهاجرين كانوا يقيمون في مقرات مؤقتة بها قدر من الانضباط، ثم يرسلونهم في قوارب متينة وفق حالة الطقس وظروف البحر.
ترصد الرواية وفود الراغبين في الرحيل وهي تتهاطل على مزرعة بالساحل الليبي، وتصف بدقة تلك الأشياء التي تركها السابقون : ملابس مبعثرة ، حقائب نصف فارغة، أحذية، قناني فارغة، ساعات يد معطلة، فوط نسائية مستعملة، علب سجائر فارغة، رسائل، وكتابات على الجدران يتنازعها الأمل والندم “إلى أين تحمليني أيتها الساعات القادمة؟ والتوقيع مجهول” تتكشف أمامهم مشاعر إنسانية غائرة في الحزن والغضب، وكلٌّ يريد أن يترك أثراً وكأنه ذاهب إلى النسيان. أشياء ثرثارة تروي حكايا من مروا من هنا إلى مصيرهم المجهول، آثار معركة مع الانتظار والتوجس متفشية كالخوف نفسه في أرجاء المكان، وهذا الأثر سيتبعه الجميع ويتركون بجواره المزيد من ذكرياتهم وهم يتابعون نشرات الطقس وأحوال البحر، ويتسقطون أخبار المغامرات السابقة.
رغم هذا المجهول الذي ينتظر هذا الرحيل الجماعي، إلا أن الأمر كان إبان النظام السابق يبدو كنزهة مع ما يحصل الآن على الشواطئ نفسها، حيث يفقد سماسرة التهريب الحد الأدنى من أخلاقية المهنة، فحتى المهن الخارجة عن القانون تقترح في النهاية حدا أدنى من الضمير المهني الذي يضمن استمرار أرباحها.
ينشر موقع جريدة،الإمارات اليوم، جزءا مما أوردته صحيفة، فيلت أم زونتاج، حول تقرير السفارة الألمانية عن معتقلات المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا التي لا يمكن وصفها إلا بالهولوكست الليبي: “أن المهاجرين يواجهون الإعدام والتعذيب، وغيرها من انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان بمخيمات في ليبيا، بحسب تقرير أعدته السفارة الألمانية في النيجر للحكومة الألمانية”.
وذكر تقرير الصحيفة أن السفارة قالت في برقية دبلوماسية أرسلت إلى المستشارية ووزارات أخرى «توثق صور وتسجيلات مصورة أصلية، التقطت بهواتف محمولة، لظروف تشبه معسكرات الاعتقال فيما يسمى بسجون خاصة»، يديرها مهربون.
ونقلت الصحيفة عن تقرير السفارة «عمليات إعدام عدد لا يحصى من المهاجرين، والتعذيب والاغتصاب والرشوة والنفي إلى الصحراء تحدث يومياً» كما «تحدث شهود عيان عن خمس عمليات إعدام بالضبط أسبوعياً في سجن واحد، مع إشعار مسبق، ودائماً يوم الجمعة، لإفساح المجال لمهاجرين جدد، بمعنى زيادة عدد البشر وإيرادات المهربين».
أما(منظمة الهجرة الدولية) فتنقل، عن مراهق من غينيا بيساو، قوله: “إنه شاهد قتل ثلاثة من المهاجرين أثناء عملهم في مواقع بناء في ظروف أشبه بالعبودية، مضيفاً: “لا أرغب حتى لعدوي بأن يأتي إلى ليبيا”.
هذه الاقتباسات ليست خيالا أو فانتازيا كتبها روائي نجا من معتقلات النازية، لكنها وقائع تحدث في بلدنا ليبيا، وتُلوث اسم هذا البلد وشعبه إلى أجل غير مسمى، وقتلُ خمسة مهاجرين من أجل أن يتسع المكان لخمسة آخرين، أو بالأحرى لآلاف دولارات أخرى، واقعة حقيقة، ولا تمت بصلة لمخيلة الروائي، ميلان كونديرا، في إحدى قصصه: “على الموتى القدماء أن يفسحوا المجال للموتى الجدد”.
الهاربون من نار جنوب الصحراء يسقطون في رمضاء السواحل الليبية بين أيدي وحوش ليبيين محميين من قبل مسؤولين كبار في طرابلس، يفرش لهم العالم الغربي والشرقي السجاد الأحمر، أثروا من حفلة إعدام جماعي، ومن إلقاء ضحاياهم في أفران البحر الهائج، ليتحول المتوسط إلى مقبرة جماعية تتكفل أسماك البحر بإزالة أثارها.
تذكر الصحيفة نفسها إحصائية لهذه الثروة البشرية السوداء التي عوضت اللصوص عن ضعف إيرادات ثروة النفط الأسود “وصل رقم قياسي من المهاجرين بلغ 181 ألفاً، معظمهم من الأفارقة، بالقوارب إلى إيطاليا العام الماضي، ليصل العدد الإجمالي للوافدين في السنوات الثلاث الماضية إلى ما يربو على نصف مليون شخص”.
وبضرب هذا العدد في 3000 دولار لكل ضحية، نعرف من أين تصرف الميليشيات على نفسها، وكيف تُشترى العقارات بالملايين على سواحل أوروبا التي حلم بها المهاجرون قبل أن يجدوا أنفسهم في قبضة الغولة الليبية التي لا تشبع من الجثث.
وأمام هذا الهولوكست الليبي، يقف العالم متفرجا، ولا يجد حلولا سوى السعي لتوقيع اتفاقية تضمن بقاء هؤلاء الضحايا في المعتقلات بين أيدي الوحوش، وكأنهم يتصدون لهجرات جراد وليس بشراً.