الناصر
سمير عطا الله
بعض الشخصيات التاريخية تقرأ عنها طوال العمر. فالسِيَر العظيمة تُكتَب ثم تُعاد كتابتها، ثم يضاف إليها، أو ينقَّح فيها، كلما توافرت لدى مؤرخ، أو كاتب، معلومات إضافية أو وثائق أو تفسيرات. من هذه الشخصيات طبعًا، وربما في طليعتها، صلاح الدين الأيوبي، الذي قَهَر الحملات الصليبية وردّها نحو أوروبا، الغارقة يومها في الجهل والتخلف. ومن الغريب، بل ربما من المألوف، أن المؤرخين الأوروبيين أجمعوا على فروسية صلاح الدين، وخُلق عدوهم الأول، بينما اختلف العرب والمسلمون حوله كالمعتاد. يُضاف إلى ذلك أن الأوروبيين هم الذين اعتنوا بكتابة ومراجعة التاريخ العربي والإسلامي، مُقابل محاولات قليلة، وغالبًا غير موضوعية، قام بها المؤرخون العرب.
في كتاب جديد عن صلاح الدين للمؤلف جون مان، اكتشفت شيئًا جديدًا، أو بالأحرى قديمًا لم أكن أعرفه عن أشهر مقاتل، وهو أن الزعيم الكردي الذي وُلد في تكريت، وعاش في دمشق، وحرَر القدس، وخاض المعارك في كل مكان، لنا نحن اللبنانيين أيضًا حصّة فيه. فهو على ما يبدو، جاء رضيعًا مع والده أيوب، الذي عُيّن حاكمًا على بعلبك، وبقي المولود هناك حتى التاسعة من العمر، يتمتع بعطور البساتين ومشهد القلعة الرومانية العظيمة، التي يزن كل عمود فيها ألف طن. بعد بلوغه التاسعة، انتقل الفتى يوسف، لاحقًا صلاح الدين، كي يمضي شبابه في دمشق، التي كانت تسمى يومها جنة الخالق على الأرض. وإذ يكتب كثيرون اليوم، ونكتب أيضًا، أن العرب قوم لا يقرأون، يحسن بنا أن نتذكر أن الرحّالة اليعقوبي أحصى في شارع واحد من شوارع دمشق، مائة مكتبة متحاذية. وفي العام الألف، كان الكتّاب والشعراء والفنانون والمترجمون يأتون إلى بغداد من أقاصي العالم، قادمين من الهند أو إسبانيا أو غيرهما، ومن كثرة ازدهارها، بلغ سكانها آنذاك، 1.200.000 نسمة، وهو الرقم الذي لم تبلغه لندن إلا بعد 800 عام. عندما كنت في موسكو 1972 قال لي سفير لبنان الراحل نعيم أميوني، وهو من أهل العلم والثقافة، إذا كنت تريد الاطلاع على التاريخ العربي حقًا، يجب أن تسافر من هنا إلى بخارى لكي تفتّش في مكتباتها العريقة عن أجمل صفحات التاريخ. وقال السفير أميوني: إنها لا تزال كما كانت في القرن الحادي عشر، يوم وصفها الثَعالبي بأنها وجه الروعة في الإمبراطورية الإسلامية، وملتقى العقول الكبرى من كل مكان.
نعود إلى بعلبك التي كانت في تلك المرحلة مدينة عربية شديدة الازدهار، وليس فقط مدينة تضم إحدى عجائب المعمار في الأرض، فيها بدأت نشأة الفاتح الكبير. وكما أننا لا نعرف على وجه الضبط كيف بُنيت تلك القلعة، فإننا لا نعرف أيضًا بمن تأثر صلاح الدين في القوة وفي الحكم، في المعرفة العسكرية وفي خداع العدو، وإلحاق الهزيمة به، ثم العفو عنه.
بدل أن تنسى أوروبا فيما بعد الرجل الذي هزمها وردها على أعقابها، ما تزال تَتَدارس، حتى الآن، سيرة قائد عسكري مذهل وحاكم عادل. ربما ما يمكن أن نغامر في التكهّن به، تأثير كبير مستشاريه الفلسطيني القاضي الفاضل، الذي لم يُعطَ حقه من الدراسة في الأدب العربي، لولا محاولة يتيمة قامت بها قبل سنوات مؤسسة عبد المحسن القطان.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية