المهدي الحاراتي .. بطل اليائسين (4)
تام حسين
ترجمة خاصة عن صحيفة EUobserver
(الجزء الرابع)
تتألق عيناه وهو يتحدث كيف خطط للقيام بعمليات احتلال خاطفة لقواعد تابعة للنظام من مثل مطار تفتناز في 2012. محللون مثل آرون زيلن يعتقدون أن لواء الأمة لعب دور الداعم وليس القائد للصراع. لكن الحاراتي حينها لم يكن راغبا في أن يقود، وفي الواقع هو ينفي التهم الاعتيادية من أنه ملأ كتيبته بالليبيين. إذ لم يكن يوجد سوى ثلاثة عشر ليبيا على الأكثر، وكان البقية سوريين. من وجهة نظره، فإن الثورة تنجح فقط إذا ما امتلكها السوريون. يزعم الحاراتي أنه أحضر الكولونيل رياض الأسد من مخيم للاجئين في تركيا وأعاده إلى ميدان المعارك في محاولة منه لتوحيد القيادات. الكونيل الأسد سيكون رمزا للثورة ليقود الجيش السوري الحر، كما ضغط على أحرار الشام، الكتيبة الإسلامية الكبيرة، من أجل التعاون معهم مذكرا قادة المتمردين أن السوريين هم الذين منحوهم الشرعية وليس العكس.
في الأيام الأولى لم تكن محتاجا إلى ثلاثة أشهر من التثقيف الآيديولوجي كي تشترك في الثورة، فالعدو كان واضحا: الأسد. كان ذلك كافيا لمنح المتمردين المشروعية. ظل يقول ذلك حتى عندما قامت القاعدة، للمرة الأولى، بالتحري عنه. لكن في النهاية لم يستمع أحد. ربما لأنه كان مستقلا إلى حد كبير، وربما، مثلما يزعم، لم يكن ثمة “غاية نهائية تعمل من أجلها”، ووقع القادة تحت سيطرة القوى الأجنبية وشرعوا في إقصائه عن القرارات المهمة.
يقول “بعد مغادرتي مَن ملأ الفراغ؟. داعش. وإذن فهل أنا حقا متطرف؟. الجميع، عدا أعدائي، يعرفون هذا”.
في ليبيا ما بعد القذافي صار من السهل أن تصبح قائد ميليشيا، “حاميا للثورة” متجولا في بكاب فوقها دوشكا وكلاشنكوف بدلا من ارتداء بدلة والخوض في سياسة الدولة. وكان المجتمع المدني هو الذي اصطدم فيه الحاراتي البطل العسكري بواقع إدارة الدولة. حين عاد الحاراتي إلى طرابلس أواخر 2012 كان مدعوما بصيته وتقدم كمرشح مستقل لعمادة بلدية طرابلس وكسب في صيف 2014. ولكن، على خلاف مساره كقائد عسكري، دامت عمادته سنة واحدة فقط. تقديره أنه أدخل كفاءة رجل آيرلندي للإدارة.
“في السابق”، يقول مبتسما “كان يمكن للحكومة الليبية عدم مراعاة الأعراف الدبلوماسية وتدخل السفارة الأمريكية للقيام بعملية تفتيش”. الآن “ينبغي عليهم هم القدوم إلينا لتفتيشهم وإطاعة القواعد”.
أبعد من ذلك قام بتطبيق توجيهات الاتحاد الأوروبي على إدارته من خلال منع التدخين في المباني الحكومية. لكن من الصعب تقييم مدى نجاح تلك السياسة، أخذا في الاعتبار أنه فشل في تطبيق مبدأ عدم التدخين على كتيبته في طرابلس.
آخرون يتساءلون لماذا بقي سنة واحدة فقط لو كان حاذقا؟. الحاراتي يضع اللوم في ذلك على الخيانات الميكافيللية. فبينما كان في رحلة إلى الخارج خطط خصومه السياسيون لجعل مجلسه يسحب منه الثقة. أثناء ممارسته منصبه تكاثرت حوله التهم، منها اتهامه بأنه رجل قطر أو السي آي إ. وحين تسأله عن قصة أموال السي آي إ التي وجدت في بيته بايرلندا يهز كتفيه واصفا ذلك بأنه اختلاق من صحافة الفضائح.
“كان لصا ذلك الذي أشاع تلك القصة”. قال ذلك في صيغة جازمة جعلتني أخجل من المضي في الاستفسار حولها أكثر. أعداؤه اتهموه بالفساد، ولكن لا شيء رشح حتى اليوم. لعل واقعة اتهامه من جميع الأطراف بكونه في جيب رجل آخر ناجمة عن كونه رجل نفسه ودفع ثمن عدم وجود حلفاء سياسيين له. يظن فتحي الورفلي، صديقه وعضو سابق في مجلس ثوار طرابلس، أن عدم وجود حلفاء سياسيين للحاراتي جعله عرضة لهجمات أعدائه.
يعتقد مؤيدو الحاراتي أنه لم يُعطَ له الفرصة ولا الميزانية التي تمكنه من تنفيذ تلك السياسات المطلوبة. لذا فهو ليس مسؤولا عما آل إليه من إخفاق.
إلا أن معارضيه لم يكونوا على القدر المطلوب من الشهامة، فالبعض اشتكى من أن الحاراتي عندما كان عميد بلدية طرابلس كان ينبغي أن يكون اهتمامه الأول المدينة نفسها، لكن ما فعله هو الترحل من مدينة أوروبية إلى أخرى للالتقاء بشخصيات أجنبية مهمة مهملا طرابلس.
فشل الحاراتي كعميد ربما كانت له صلة أوثق بعدم قدرته على التعامل مع سياسة العباءة والخنجر في المجتمع الليبي. ومثل غاريبالدي، أزيح بسهولة من قبل السياسيين المحنكين. سحبُ الثقة منه أسفر عن استقالته والمنفى الاختياري في مالطا.
“الآن يمكن للكتائب إشهار السلاح في وجه موظف حكومي ليوقع بعض الأوراق، العمداء يُختطفون، لم يكن ذلك يحدث في عهدي. في عهدي تترك سلاحك خارج المبنى، والموظفون يتلقون رواتبهم في مواعيدها. القمامة أزيلت”.
واضح أن الحاراتي يدفع بفكرة أن الأمور تسوء دائما إثر غيابه. إلا أنه من الواضح أن أولئك الرجال في طرابلس يتساءلون ‘ما الذي ينوي فعله الآن؟‘. لعل الحاراتي أخفق لأن المهام اليومية للحكم كانت، ببساطة، المسرح الخاطيء.
في ليلتي الأخيرة في فاليتا كان الحاراتي منزعجا. الرئيس ترامب ألقى أول خطاب له في الكونغرس. يمكن عذر الحاراتي على ذلك، فالعالم يزداد انزعاجا في كل وقت يغرد فيه ترامب.
سألني “هلى ترى كيف قال ترامب أنه يريد محاربة الإرهاب الإسلامي؟”.
اعتبرت ذلك محاولة لخلق حديث.
أضاف “ماذا لو أن ترامب قرر تمويل المنشقين والمعارضة التي تتدرب حاليا في تشاد بتمويل مصري؟”.
إذا صح قول الحاراتي، فهل ستستيقظ طبيعته القلقة وترغب في العودة؟. ماذا لو أن البيئة السياسية الليبية أضحت بدائية من جديد: الثوار ضد الثوار المضادين، النور ضد الظلام. هل سيعود أو يستطيع العودة؟. تدخل غاريبالدي أحيانا في مغامرات إيطالية وأوروبية. هل سيفعل الحاراتي مثله؟.
لكن الحاراتي سبقني.
“قد أكون مصيبا الآن ونافعا لاحقا”. قال كما لو أن زمن الأبطال انتهى. أشار إلى عودة أمير الحرب الأفغاني حكمتيار الأخيرة إلى محادثات السلام في كابول، “لم يكن صالحا خلال فترة الجهاد في أفغانستان. لكن الآن، بعد عشرين سنة، يتصل بطالبان من أجل التفاوض لإحلال السلام”.
قد يُتهم الحاراتي بأن له أوهاما حول العظمة، إلا أنه قد يكون بعد ست سنوات مصيبا في أن زمن القائد البطل قد انتهى. فبينما انتخب بسبب مآثره، فإن واقع أنه ظل في منصبه سنة واحدة فقط كان أيضا علامة على أن الأشياء تتغير حتى قبل استقالته من منصب العميد.
في 2013 أوضح تقرير مكون من 460 صفحة أجري بتكليف من وزارة الدفاع البريطانية بعنوان “مدخل سلوكي دينامي إلى الاستقرار في ليبيا” توصيات استراتيجيا موسعة تمضي إلى حد تشجيع الليبيين على الدخول في مسابقات الأغاني الأوربية، وتشجيع مانشستر يونايتد، عارضا دراسة مفصلة حول كيفية عمل المجتمع الليبي. إحدى الملاحظات كانت: “لم تعد البنى التقليدية مصادر فعالة للقيادة. فشيوخ القبائل وشيوخ الدين والحكومة المركزية الحالية ينظر إليهم دائما على أنهم لا علاقة لهم بليبيا الحديثة.
وهم لا يحظون إلا باحترام اسمي، وتأثيرهم محدود”. لعل هذا هو الحاراتي الآن، رجل ذو تأثير رمزي واسمي، ما يستطيع فعله في فترة الثورة “الفترة البطولية” لا يستطيعه الآن. التقرير قال أيضا أن “الجزء الأكبر من عدم الاستقرار السائد في البلد حاليا يمكن أن يعزى مباشرة إلى جماعات تقوم بردة فعل على واقع عدم وضوح الرؤية لدى حكومة ليبيا ونقص وسائل الاتصالات والتقدم لديها، أو تستغل ذلك”.
اليوم الوضع أسوأ. فثري ليبي في طرابلس يدعى أحمد (تم تغيير الاسم) وهو أيضا ثائر، حذرني من أن ليبيا على حافة حرب أهلية ستزعزع استقرار المنطقة برمتها. الحكومة الشرعية، ممثلة في رئيس الوزراء فائز السراج تفتقر إلى المصداقية على الأرض. مؤيدو الحاراتي، المداخلة، يسيطرون على منابر طرابلس ويحملون الأسلحة ومتورطون في عمليات اختطاف وابتزاز. وقد حلوا مكان شيوخ المالكية المحليين في البلاد من خلال فرع صغير من السلفية تتمثل فلسفته في أنه لا يجوز الخروج على ولي الأمر. ومن المفارقة أن المداخلة يستخدمون السلاح لفرض وجهة النظر هذه المضادة للإسلاموية، ومظاهر تهديدهم للاستقرار تفوق النزاع القبلي الداخلي بين الزنتان ومصراتة وطرابلس، وهكذا.
ومثلما أخبرني رجل الأعمال الليبي: “ليغفر لي الله، فحتى لو أرسل رسول الله إلى ليبيا لن يستطيع حكم الليبيين!. لأنهم فشلوا في اغتنام الفرصة الذهبية التي أتيحت لهم”.
بالنسبة إلى أحمد يبدو المستقبل أسود. إلا أن الحاراتي متفائل بشكل لافت: “الخوف تلاشى”. فوضى وعنف السياسة الليبية أمر جيد للشعب، فلن يكون بمقدور أي طاغية حكمهم. ورغم الفوضى فإن ليبيا لها ثلاثون محطة تلفزيونية وما يزيد عن ستين محطة إذاعية وثلاثمئة مطبوعة. هذا تقدم كبير، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه منذ نصف عقد مضى كانت البلاد تحت حكومة شمولية قاسية. ومع ذلك، فبينما أن الخوف ربما يكون قد زال فإن عدم استقرار ليبيا ستكون له تبعات على أوروبا.
أصبحت ليبيا بؤرة تهريب البشر مصدرة المطحونين ومولدة البائسين الذين يفجرون أنفسهم في المدن الأوروبية، تماما مثلما توقع تقرير وزارة الدفاع البريطانية في 2013. لعل ما ليبيا في حاجة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى هو رجل سياسة، وعلى حين أن الحاراتي ربما يعاني من نزعة صناعة الأسطورة فإنه قد ألقى بسلاحه وأخضع طبيعته المندفعة.
لعله ينبغي على قادة “ميليشيات” آخرين فعل الشيء نفسه من أجل مصلحة بلادهم. المفارقة، أن التاريخ ربما يذكر فقط الليبي ذا الروح المندفعة الذي آثر حياة هادئة (الآن على الأقل) مثلما فعل القومي الإيطالي غاريبالدي وهو يبحر نحو كابريا حاملا بيده كيس بطاطا، بعد أن وحد بلاده.
* الواقع أن هذه آية قرآنية وليست حديثا “وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّايَعْلَمُهَا” الأنعام 59.
*المقالات المترجمة المنشورة على 218TV لا تُمثّل وجهة نظر المؤسسة ولا تتحمل أية مسؤولية قانونية تجاه إعادة نشرها