المهدي الحاراتي .. بطل اليائسين (3)
تامر حسين
ترجمة خاصة عن صحيفة EUobserver
(الجزء الثالث)
كانت الثورة الليبية، كما يتذكرها مقاتل ليبي بريطاني، “ثورة بروليتارية بمعنى الكلمة، وليست حربا أهلية مثلما في سوريا. الحرب نفسها كانت تتسم بجو حزبي”. ولعل هذا يوضح لماذا كان الحاراتي مناسبا لهذه المهمة. حين دخل الحاراتي بنغازي وجد ليبيين من كل الأعمار متحدين بالعزم على الإطاحة بالقذافي، إلا أنه ينقصهم التوجه والخبرة. كان المقاتلون، حسب المقاتل الليبي البريطاني، شجعانا “كان الجميع، من الفتيان البسيطين إلى القيادات العليا، شجعانا. لأن معدل الإصابات كان مرتفعا. أتذكر أن الكتلة الأساسية من المقاتلين كانت متكونة من الفتيان الذين لا يمتلكون أية خبرة قتالية سوى خبرة لعبة نداء الواجب، وكانوا يتبعون أي شخص يبدو ويتصرف كقائد”.
بدا الحاراتي وتصرف على هذا النحو. “أحبه الجميع. لعب دورا بالغ الأهمية. كان قائدا واثقا وجيدا. مظهره أيضا كان جيدا، وهذا أمر مهم في مناطق الحرب. فكلما بدوت حسن المظهر ومتزودا بالمعدات اللازمة مقارنة بأولئك الفتيان ذوي اللباس المتنافر تنال احتراما أوفر، وكان يتنكب سلاحه ويرتدي قبعته ونظاراته الشمسية. وهكذا بدا عمليا، فاستمع إليه الناس واحترموه وتبعوه”
أكثر من ذلك، حافظ على بساطة تكتيكاته، وهو أمر مهم في السيطرة على مليشيا مدنية فوضوية. بداية، كون ودرب كتيبة في مدرسة ببنغازي، وحينما توسعت المعركة باتجاه طرابلس بدأ الحاراتي في التفكير في كيفية قطع المسافة بينه وبين العاصمة. وبالاعتماد، دون شك، على سمعة عائلته اتصل بشيوخ الزنتان وتوصلوا إلى اتفاق يسمح له بتحريك كتيبته إلى جبل نفوسة. وبذا قلص المسافة بينه وبين طرابلس مجتذبا شبابا طرابلسيين متحمسين من مثل إبراهيم المزوغي البالغ ثماني عشرة سنة وليبيين بريطانيين آخرين إلى معسكره.
يقول الحاراتي “تعرف أنك قائد عندما لا يرغب الرجال الذين تقاتل معهم أن تكون في المقدمة ويطلبون منك أن تقود من الخلف. حينما تشاركهم مخاطرهم، وتعتبرهم مهمين وتضع نفسك في المقدمة من أجلهم، فإنهم يمنحونك القيادة”.
بكلمات أخرى، لم يكن بحاجة إلى الصراخ. يقول الحاراتي أن كتيبته كانت تختلف عن الكتائب الأخرى، كانت ذات لباس عسكري موحد ورتب ومهمات. كان يرى كتيبته كتيبة منضبطة.غير أن الواقع قد يكون في مكان ما بين الفوضية وحسن النظام. وحسب رواية صهره فإن الثوار أدخلوا تعديلات على البدل لتلائم رؤيتهم في اللباس وبنية أجسادهم.
وعندما حاول الحاراتي فرض عدم التدخين أخفق إخفاقا ذريعا. وكما أخبرني أحد المقاتلين “كنا شبانا في الثامنة والتاسعة عشر متطلعين إلى المغامرة. لكن في بعض الأحيان يستيقظ المرء مثل السكران ويقول ‘آه. لا أرغب في الذهاب إلى الجبهة. أراكم لا حقا، يا شباب.‘.”.
لذا فلعلها لم تكن بالانضباط الذي يتذكرها به الحاراتي، ومع ذلك تم التقيد بقواعد الحرب، عدم المساس بغير المحاربين، المعاملة اللائقة للأسرى، وكل هذا طبقا لعقيدته.
بمجرد أن لاحت طرابلس، ظهرت بدايات الانقسامات التي تقسم ليبيا الآن. فلقد كان ثمة قادة كتائب أخرى تحاول الوصول إلى طرابلس قبل غيرها.
لم يكن الجميع على استعداد للتعاون. بعض القادة رأوا أن الشركاء الدوليين كانوا أساسيين في الانتصار. قد يقول مصطفى عبد الجليل، وزير عدل سابق مع القذافي، هكذا هو العالَم. ولكن حتى مع قبول كتيبة الحاراتي بالتعاون مع الناتو فإن العلاقة لم تكن سلسة. وكما يتذكر الحاراتي: “في ما كنا نحتاجهم؟”.
على حين أنه لم يتدخل في شؤون القيادة البربرية، فإنه لم يسمح لنفسه أن يتلقى أوامر من الناتو. وبمجرد أن تحصن الحاراتي في طرابلس، قال لي أحد الصحفيين، كان عليه أن “يتكيف”.
مصطفى عبد الجليل وعبد الحكيم بالحاج، مؤسس الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، سألا الحاراتي عما إذا كان يقبل أن يكون تحت سلطتهما. كان واضحا من ابتسامة الحاراتي أنه لم ترقه فكرة أن يكون مرتبطا ببلحاج أو أن يكون تحت إمرته.
لقد كان مدركا تماما لإمكانياته وينبغي أن يكون مساويا له. أوضح الحاراتي بجلاء أنه قابله في لقاء قصير وأنه لم يشاركه رؤيته السياسية ولا ما يثار حول علاقته بالقاعدة. واقع أن الناتو بارك ذلك الترتيب أمر مثير للفضول، إذا ما أخذنا في الاعتبار عداءه لأمثال بالحاج. والخلاصة، أن الوحدة أنجزت في ملامحها الظاهرية وكان متوقعا أن يمضي الحاراتي إلى طرابلس مباشرة.
يدعي الحاراتي أنه خطط بدقة لفتح طرابلس قبل ذلك بأشهر. كان رجاله في ضواحي طرابلس عندما أمره مصطفى عبد الجليل بعدم دخول العاصمة.
لم يرغب الحاراتي في انتظار وصول بقية القوات. “علينا الدخول الآن”. قال. الوقت كان مسألة جوهرية. الحاراتي يدعي أن رئيس المجلس الانتقالي الوطني، عبد الجليل، هدده بغارات من الناتو إذا ما استمر في تقدمه. هز رأسه وهو يحكي هذا. لم يكن لديه وقت لصيادي المجد. هذه لحظة العمل، لا الدبلوماسية. قال لعبد الجليل أنه سيتحدث مع رجاله ويعود إليه.
في الأثناء أرسل الحاراتي وسائل الاتصال بالقمر الصناعي إلى الجبال خشية أن يرغب الأمريكان في اختلاق “حادث” وإطلاق صواريخ عليه شخصيا. ثم أصدر أوامره بالاستيلاء على ما بقي من المدينة، لأن المقاومة تهاوت. ولم يتصل بعبد الجليل إلا بعد سقوط المدينة. يمكن للمرء تصور ردة فعل عبد الجليل حينها. تصرف الحاراتي منفردا جعل منه فاتح طرابلس، بطلا شعبيا، ولكنه أيضا خلق له أعداء أقوياء. الآن وبعد استعادة السلطة للشعب، ألقى الحاراتي سلاحه وعاد إلى دبلن في 2011.
وفي آيرلندا مرض مرة أخرى، على الأغلب بسبب معاناته من عدم الفاعلية. في السرير شاهد المصير السوري يتكشف. نهض من على السرير وطار إلى تركيا ثم تسلل إلى سوريا، جبل الزاوية، بحثا عن مهمة. هناك قابل المهرب جمال معروف الذي سيصبح قائدا متمردا فاسد الذمة، الراحل أبو عبدالله مؤسس أحرار الشام وغيرها. ووفقا للحاراتي استقبله المتمردون السوريون كأخ، إلا أن النظام علم بوجوده وقام بجهود متناسقة لأسره. لقد منح حضور أمثاله الأسد ذريعة للقول أن عناصر أجنبية تزعزع استقلال سوريا.
تغير وجه الحاراتي وهو يتذكر كيف طُوِّقوا، وأن إماما زاروه منذ أيام علق رأسه على عامود. كان الحاراتي في بيئته، وهو يعمل بشكل أفضل حين يكون الصراع بسيطا، بين النور والظلام، الخير والشر. هاتف زوجته وأخبرها أن السوريين يحتاجونه وقد لا يعود.
استخدم خطته المجربة والمختبرة وأسس كتيبة لواء الأمة في معرة النعمان. يعتقد أن الجهاد، حق الدفاع عن النفس ضد طاغية، فريضة دينية. وقد مزج ذلك بالتنظيم والشارات والبدل الموحدة والمهام، وكعلامة على وعيه بأهمية وسائط التواصل الاجتماعي أنشأ جناحا إعلاميا. وهكذا صرنا نراه على اليوتيوب في وضع تصوير بكامل هيئته العسكرية، البدلة المصفحة والبندقية، والقبعة ذات العلامة التجارية التي مازال يرتديها في مقابلتي معه، يرتل القرآن ويحمس رجاله قبل التوجه إلى المعركة.
قد يبدو هذا لصحفي غربي مجرد جعجعة، ولكن، وبالنظر إلى ماضيه وتعليمه الديني وبالطبع خبرته العسكرية ودعمناها بآيات القرآن فستكون لدينا بدايات بطل أسطوري في عيون مؤيديه.