المكتبة (16)
نخصص هذه المساحة الأسبوعية، كل يوم أحد، للحديث عن العلاقة بين المبدع وكتبه، والقراءة، والموسيقى.
حاتم الصكر: كاتب وأكاديمي عراقي، يقيم في الولايات المتحدة منذ عام 2011، عمل في التدريس والصحافة الثقافية.
صدر له العديد من الكتب النقدية نذكر منها: (أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها ـ 2017)،
(نقد الحداثة ـ دراسات في نقد النقد- 2014)، (قصائد في الذاكرة ـ قراءات استعادية لنصوص شعرية ـ 2011)، (أقوال النور- قراءات بصرية في التشكيل المعاصر ـ2010)، (في غيبوبة الذكرى ـ دراسات في قصيدة الحداثة ـ 2009)، (انفجار الصمت -الكتابة النسوية في اليمن ـ 2003)، (المرئي والمكتوب: دراسات في التشكيل العربي المعاصر ـ 2007).
ـ ما الذي جاء بك إلى عالم الكتابة؟
ـ من بين عدة عوامل فاعلة، أتذكر أثر المدرسة، التعليم منحني فرصة التعبير حين لم يكن ممكناً تلمُّس ما بداخلي. معلمو الإنشاء نبهوني إلى إمكان احتواء الشعور والعاطفة ثم الإدراك عبر الكلمات. وكتب المكتبة المدرسية من بعد حفزتني أن أضع أشعاري- بدأت كسواي من جيلي شاعراً – في مجاميع صغيرة أو دفاتر. لكن بحوث الدراسة الجامعية في سنواتها الأولى وهبتني – من بين ما وهبت- يقيني بأن مستقبلي الشخصي والإنساني كامنٌ في الكتابة، حيث أنتزع نفسي من واقعات الحياة ومفرداتها ويومياتها؛ لأنسخ وأحفظ وأدوّن، ثم في ما يشبه العدوى لمن يلامس جسداً مسكوناً بجنون الكتابة، وجدتني أكتب دون ملل، لأنني وجدت السلام الذي أفتقده وسط اضطرابات الطفولة والصبا وعثراتهما المتنوعة.
ـ ما الكتاب الأكثر تأثيرا في حياتك؟
ـ ليس كتاباً واحداً، لكن أكثر ما أثَّر في حياتي كتاب (ألف ليلة وليلة) بسرده العجائبي، وحرية المخيّلة، وتحولات الشخصيات والوقائع والمصائر. شعرت بقدرة الإنسان على الخلق في عالم متنوع: واقعي وسحري ومتخيل، خليط من البشر نساء ورجالاً وبينهما!، فقراء يغتنون وأغنياء يفقرون، حيوانات يستضيفها البشر وتحمل أسراره، حكام ومحكومون، عادلون وطغاة، حشد لا يضمه كتاب سوى الليالي العربية وظلام ثناياها وأيامها. وهكذا تعقبت المخيلة وجموحها وجمالياتها في الشعر مكتوباً ثم مقروءاً. بل تعقبت عجائب عصرنا ومفارقاته وظلماته بما أوحت لي وبصّرتني به الليالي بغرائبيتها من قبل.
ـ أول كتاب قرأته؟
ـ مبكراً وبمصادفة عائلية بحتة أهداني أخي الكبير رشوة لأتنازل عن طلب ملحٍّ حينها، كان الكتاب هو (أخبار المجنون)، عن بعض ما نسب من قصص عن قيس ابن الملوَّح، وبعض أشعاره. أدهشتني مواقفه العاطفية ومأساة حبه وجنونه وإصراره وضياعه وموته، وتحويل تلك الوقائع شعراً عذباً، تسيل دموعي وأنا ابن الحادية عشرة، أقرأ ما جرى له مع أهله كي ينصرف عن حب ليلى، فيقسم وهو مقيد إلى أستار الكعبة ألا يتركها حتى يموت. عرفت بعد سنوات أن هذا الكتاب بأوراقه الصفر المتواضعة وغلافه البسيط ما هو إلا الأخبار التي أورد بعضها أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني)، وسردَها مقرونة بأشعاره. من هنا تعلمت أن الألم والأمل والحياة والموت كلها وقائع تسكن خارجنا، ويمكن أن يحيط بها كتاب أو قصيدة أو قصة. فأدرجت ألمي وأحلامي ولهفة التعرف في برنامجها الذي تبيّن لي أنه أقيانوس بلا حدود أو شطآن، فأبحرت بسفين مضطرب في لجته.
ـ علاقتك بالكتاب الإلكتروني؟
ـ رغم أني من مدمني قراءة الكتاب الورقي الذي زادت محبته مع تقدمي في السن، صرت أقرأ الكتب الإلكترونية والصحف الرقمية وما في المواقع على مضض وبضغط الحاجة، حتى صرت آلفها الآن. ولوجودي في مغترَب قصي، وكي لا أشق على الأصدقاء والزملاء في طلب إصداراتهم عبر البريد العادي باهظ التكلفة، والبطيء أحياناً، فقد صرت أتلقى منهم ومنهن نسخاً إلكترونية حتى تجمعت لديّ مكتبة رقمية طيبة. عدا ما أتصيده من المواقع، ومحركات البحث وفي مقدمتها أذكر أبانا الذي في الشبكة: غوغل.
الآن تيقنت أن الكتاب الإلكتروني وجه آخر لشيوع المعرفة، والقراءة ببساطة وبيسر، متخطياً الحدود الرقابية والجغرافية.
ـ الكتاب الذي تقرأه الآن؟
ـ هي أيام لقراءة الشعر حيث لايكفيني كتاب، فأمامي الآن دواوين الأصدقاء الجديدة: غسان زقطان (نسيت حقائبي في الليل ـ حدائق شعرية)، واسكندر حبش (لا شيء أكثر من هذا الثلج)، والمجلد الثالث من أعمال الشاعر عيسى الياسري المكرَّس لقصائد نثره الأخيرة.
ـ الموسيقى المفضلة لديك؟
ـ أشعر بشحِّ القنوات الموسيقية المناسِبة، فأستمع قليلاً لتسجيلات من معزوفات فرقة الأخوة جبران المصاحبة لقصائد درويش، وسمفونيات موزارت حين أشتغل على الحاسوب، أو أقود سيارتي، وألوذ بمقدمات أغاني أم كلثوم الموسيقية وشجى ألحانها عند اشتعال جمرة الحنين للأقاصي من الزمن والأمكنة. وغالباً العزف المنفرد: عود نصير شمة، ناي شجي لجنوبيين وجبليين مفعمين بالأسى والجمال، سنْطور من المقامات العراقية التراثية. أذكر أن في ديواني الأول قصيدة عن عازف السنْطور في المقهى البغدادي: يداه إذ تلاعب الأوتار /تؤرخ المسافةْ/ ما بين جسر الدمع والرصافةْ.
ـ علاقتك بمؤلفاتك؟
ـ تشبه علاقتي بألبومات صور تذكارية، تتغير فيها الأشكال والثياب والأعمار، هكذا أراها حين أتأملها.
أما الجديد منها فيظل له موقع الوليد القادم بعد انتظار أجده ناقصاً كل مرة وأود لو أكملته بغير ما هو عليه. لا أتحدث عنها كثيراً لكنها تقاسمني وحشتي وأملي وبهجتي القليلة، ووجودها مصطفةً تلخص ما فات من سنوات عمري الأدبي وسنين حياتي، وكثيراً ما تهبني الثقة حين يكبو الجسد، بأن الخلق دواء والكتابة خلاص. هنا أشعر بما لها عليّ من دين، إذ تبعث بي الحياة كلما ضاقت السبل.
ـ هل ستغير الكتابة العالم؟
ـ يبدو أن العالم لم يرضَ بالحلول التي تقترحها الكتابة لأزماته حتى تلك الجمهوريات والمدن الفاضلة، وصورة الإنسان الكامل، وخيالات إخوان الصفا، وآلات الزمن والسفر الحر فيه، فثمة في الميدان متبارون أكثر فتكاً وإغراء، الفتك بقوة الهيمنة والتسلط، والإغراء بما تتغلف به من جماليات وتقنيات. في النهاية أجد أن الكتابة تتغير وتغير نفسها داخل حدود الكتّاب وكتبهم وسيرورة التاريخ المكتوب. هي تغير عالمَ (ها) حيث تهمشت شيئاً فشيئاً كفعل مؤثر. فلم يبق سوى اقتراح الطرق الممكنة للنجاة من السقوط في التكلف والتطرف، وإطلاق نداءات العدل والحرية. لذا يوجد في العالم (الآخر) اليوم من يرى في الكتابة عدواً مارقاً.
ـ ماذا تحتوي مكتبتك؟
ـ رفٌّ يدور مع الجدار.. وينتهي عند الجدار
كتب لها شكل السفينة حين يدهمها الخطر
كتب تمد شراعها
وتظل عبر الصمت تحلم بالسفر
(من قصيدتي: (المكتبة)، ديوان ملاذ أخير 1994-من جناياتي الشعرية الموزونة وآلامي المقفاة).
كان تصور بورخيس للفردوس أنه بشكل مكتبة، لكنَّ لي فراديس أرضية كثراً.
هي مكتباتي – لا مكتبتي – التي توزع مداد صفحاتها بين المدن!، فقد تغيرت مواضعها ومحتوياتها من بغداد والكوت، فصنعاء، ثم تَنَسي البعيدة. تصغر المكتبة بالانتقال وتنمو من جديد. حولي الآن رفوف بدأت قليلة العدد ثم تكاثرت عبر بريد الأصدقاء ومقتنياتي من معارض الكتب وزياراتي، لكن نسقها دوماً هو ذاته: في الأعلى كتب الشعر (عربية ومترجمة)، ثم كتب النقد الأدبي والنظرية، تليها الكتب الفنية، في التشكيل خاصة وألبومات الفنانين، وتتراص الروايات والقصص وكتب السيرة في مكان قريب كقربها أو قرابتها الفنية من أب واحد هو السرد، وللفلسفة والفكر حصة أقل. هذا اعتراف بسطوة تربيتنا الأدبية، ولكن الدوريات تعوض ذلك حيث تضم ما يتيسر من مجلات فكرية وثقافية عامة وأدبية خالصة.
ـ ما الذي يشغلك اليوم؟
بعد صدور آخر كتبي (تنصيص الآخر) هذا العام، فكرت بإعادة طباعة ونشر عدد من كتبي التي مضى زمن على إصدارها. وفي الوقت ذاته أنشغل بالدفاع عن أدبية النقد الأدبي وضرورته وسط هجمات ما بعد الحداثة وإعلان موته! في مأتم شعبوي غريب يهجّن النقد ويعيده للحمولات والتأويلات الاجتماعية والسياسية، وبهدْي العوامل غير النصيّة. وثمة تكليفات لملفات خاصة حول النقد الشعري، وتهيئة أكثر من محاضرة رقمية لمواقع ثقافية وأكاديمية. هي من محصول الجائحة وانقطاع التواصل المباشر.