المصالحة “مبيوعة”!
حمزة جبودة
مدخل:
كل منطقة وكل مدينة وكل قرية وكل شارع وكل بيت في ليبيا.. هو بيت الطيبين، الطيبون الذين يُفكّرون كل يوم كيف يؤمنون قوت أبنائهم، ولا يعرفون عن السياسة شيء، الطيبون الذين لم يصل إليهم اليأس، ويعلمون دون ملل لأجل بلدهم ولا ينتظرون شكرا.. الطيبون الذين نعرفهم عن ظهر قلب، ونلجأ لهم حين لا نجد لأنفسنا أي مكان آمن.. نلجأ لهم لأنهم أبناء وطن واحد، لاثورة وقادة!
(1)
عند قراءتي للبيان الختامي “للقاء المصالحة بين أهالي الزنتان ومصراتة”، توقّفت للحظات محاولا فهم النقاط التي وردت فيه، والتي كان أولها، حرمة الدم بين أبناء الشعب الليبي، بعدها تحقيق أهداف ثورة السابع عشر من فبراير، والعمل على المصالحة الوطنية الشاملة، وعدم السماح لتقسيم ليبيا،والدفع لبناء دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة، وأيضا توحيد المؤسسة العسكرية تحت سلطة مدنية، وأخيرا محاربة الإرهاب بكافة أنواعه وفي أي مكان من ربوع ليبيا. وهُنا انتهى البيان الذي لخّص اللقاء التصالحي. انتهى كما تنتهي عادةً البيانات في ليبيا، عند نهاية أي حرب أو خصام بين الأطراف، انتهى دون أن يُشير إلى كلمة “اعتذار” لكل الضحايا الذين سقطوا في حرب فجر ليبيا، التي بدأت في منتصف شهر يوليو من العام 2014، بكلّ بساطة نُنهي حقبة قاسية أدخلت ليبيا في نفق مُظلم، سهّلت لكل التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش باحتلال مناطق ومدن ليبية. بكلّ بساطة نُلخّص حرق المطار الدولي والخسائر البشرية والمادية، وتهجير المواطنين الآمنين، القبض والاختطاف على أسس قبلية ومناطقية، وإقحام المنطقة الغربية في صراعات امتدت إلى شرق البلاد، في عملية أخرى كان اسمها “عملية الشروق”، كلّفت ليبيا خسائر بالمليارات.
كل ما ذكرناه وأكثر، تحاشى البيان الختامي للقاء المصالحة في مدينة الزنتان ذكره، بل حاول أن يتناسى أن ليبيا أصبحت بفضل فجر ليبيا، مزارا لكل إرهابيي العالم، وأصبح فيه المواطن الليبي متهما في كل مكان، ومطاردا، لم يجرأ البيان الختامي على ذكر كلمة “نعتذر لكل الليبيين، ونتحمّل كافة المسؤولية عن أيّ أخطاء أو كوارث حدثت بسبب الحرب”، لم يجرأ البيان الختامي أن يقول بكل شجاعة: “إيمانا منّا بالمصالحة الحقيقية، فإننا سنُقدّم كل من زجّ بالشباب في هذه الحرب إلى القضاء، وإننا مستعدون لأي محاسبة من قبل الليبيين”.
(2)
لا أحد يرفض المصالحة الوطنية، ولا أحد يرفض الحوار إن كان هدفه الوصول إلى نتائج تضمن الاستقرار السلمي في ليبيا، ولكن يجب قبل أن نبدأ في ملف المصالحة، علينا إيجاد تعريف شامل لها، علينا الاتفاق عليها وأن نتحمّل كامل المسؤولية عند أيّ خطأ أو جُرم يرتكبه أحدهم في حق الآخر في ليبيا، يجب معرفة أن المصالحة الكاملة، تحتاج لمن لا يخاف من الاعتراف بالخطأ، و من يستطيع أن يقول بملئ فمه: أخطأت في مراحل سابقة وأعتذر عمّا حدث، وأتحمّل كامل المسؤولية.
قبل أن نُفكّر في المصالحة وترسيخها، علينا مراجعة كل الأخطاء ومحاولة إصلاحها إن كانت ماتزال قابلة للإصلاح، علينا أن نفتح الملف الذي نتحاشاه جميعا في ليبيا، وهو “ملف المكاشفة الحقيقية”، وإعادة النظر في كل الأخطاء السابقة والتي حدثت بعد ثورة فبراير، علينا تقديم كل من ارتكب خطأ أو جريمة، أو ساهم فيها، وقبلها تحديد من كان يُشعل فتيل الحروب بين الليبيين.
لا أحد يرفض المصالحة في ليبيا، حين تجمع “الضعيف والقوي”، وتردّ الحقوق لأهلها، وتُعيد المهجّرين إلى دياهم.
(3)
لا أحد يكره المصالحة، ولكن حين نرى أحد الذين دعموا الحروب وانتهجوا خطاب الكراهية بين الليبيين، على طاولة الحوار، علينا إعادة النظر والتأمل للحظات في كل من أدخل ليبيا، هذا النفق المظلم، الذي لم نخرج منه مند العام 2014. وبسببه أصبحنا نقرأ ونتابع جولات الحوار، كما يُتابع جمهور كرة القدم فريقه، ويطمح للفوز على حساب الآخر!. علينا أن نقول لهُ بكل أدب واحترام: احترم نفسك وعُد إلى بيتك، حتى لا تراك إحدى الأمّهات التي فقدت إبنها بسببك وبسبب أطماعك، عُد إلى بيتك وحاول طمس ما حدث لكل من دخل حربك ولم يعُد إلى بيته. أو إن كُنت شجاعا فاعترف بجرائمك وقدّم نفسك للمحكمة، لأننا حينها فقط سنُفكّر في مسامحتك، لكن قبلها، لن تنفعنا المسامحة، لأن غيرك سيتشجع ويرتكب الجرائم، لأنه رأى بنفسه كيف يُكرّم المجرمون في ليبيا، وكيف يصبحون نجوما سياسية واجتماعية.
(4)
الاعتذار في المحافل الاجتماعية، يُعتبر شجاعة نادرة، تستحق الاحترام والتقدير، أما حرق المراحل التي تحمل أسباب الحروب أو الصراع ببيان أو لقاء مُرتبك وسريع، فإنه لن يصمد، وهُنا لا نقصد عن لقاء أخوتنا في الزنتان ومصراتة، بل كل المحاولات السابقة التي كانت تطمح لرأب الصدع وفشلت مع أول اختبار. ولو أحصينا عدد المصالحات التي تمت في ليبيا، بين المدن والمناطق والقبائل، سنجد بعض بياناتها، بعيدة عن جوهر الخلاف، ودائما تذهب البيانات تلقائيا إلى هذه الجملة المُكررة: “رفع الغطاء الاجتماعي عن أي مجرم وأي طرف يخترق الهُدنة، أو الاتفاق”. ولا نرى ترجمة لهذا في أغلب الاتفاقيات.
(5)
حاولت في هذه القراءة البسيطة، أن أتجنّب ذكر الأسماء التي تورطّت في الحروب وتهجير الناس، وأن لا أكتب بلُغة الأرقام عن الجرائم الموثّقة والتي ماتزال آثارها باقية في بعض المناطق، حاولت أن أتجنّب الحديث عن أهالي تاورغاء، ومخيّم قرارة القطف، الذي أصبح خبرا منسيًا في ليبيا، وأن لا أشاهد مقطع الفيديو الذي يصرخ فيه أحد الذين فقدوا الأمل: “مبيوعة”، لأنها في الأساس كانت ولازالت مبيوعة!