المتنبي وبلده
خالد القشطيني
العراقيون شحيحون على أبناء بلدهم من شعراء وأدباء وفنانين. وهو ما أشار إليه ابن الجوزي عندما قال:
يقولون إن أنت عاتبتهم
مغنية الحي لا تطرب
ويظهر أن المتنبي قد شعر بذلك فرحل في مقتبل حياته من موطنه ومدرسته الكوفة وسار إلى بلاد الشام حيث التحق بخدمة سيف الدولة. وعندما ضاقت به الحياة هناك رحل إلى مصر ودخل في خدمة كافور الإخشيدي. لم يمكث طويلاً في مصر فرحل متألماً ساخطاً إلى بلاد فارس ودخل في خدمة عضد الدولة البويهي في شيراز. ومرة أخرى لم يطب العيش له هناك فرحل عنها. وفي طريقه إلى مسقط رأسه في الكوفة، واجه غريمه فاتك بن أبي جهل الأسدي. نشبت معركة بينهما بسبب أبيات قالها المتنبي في عرضه. وقتل فيها الشاعر عن خمسين عاماً في سنة 965م.
أمر غريب من هذا الشاعر المبدع أن يرحل ويعمل في شتى البلدان ولكنه لا يسعى ليتخذ من بلده موطناً له. كأني به يقول إن العراق بلد تعتز به دون أن تتخذ منه موطناً. والواقع أن جلّ تجاربه في العراق لم تكن مريحة له. لا عجب أن يلقى نهايته هناك في أرض السواد غرب بغداد. إذا كان لم يتنعم فيها فليدفن فيها. يعلم الله أين مثواه الآن من أرض السواد.
بيد أن الشاعر لم يواجه الأذى من رجال العراق فقط، بل وكذلك من نسائه. فعندما وصل إلى أكناف بغداد وأدركت فيه بعض النساء أنه الشاعر أبو الطيب المتنبي، هجمن عليه بأحذيتهن وانهلن عليه ضرباً. والقصة هي أنه قال أبياتاً هاجم فيها بنات الحضر؛ أي بنات بغداد، في معرض إشادته بالنساء البدويات:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
قلن ذلك وخلعن نعالهن صائحات به: «انظر إلى هذه الوجوه، هل هي المعيز، أم وجهك أنت هو وجه المعيز؟»، وهممن بضربه بنعالهن حتى تمكن من الهرب منهن بشق الأنفس.