المباركة الروسية التي عقّدت حسابات حكومة باشاغا
لطالما كانت الظرفية التاريخية فارقة في تطورات الأزمات التي تتداخل وتتشابك فيها المحاور الدولية، فتتطور إيجابياً مستفيدة من مساحات التوافق والتلاقي بين مصالح الدول المتداخلة، أو تزداد تعقيداً وتشظياً مع توتر العلاقات الدولية بين الأطراف الفاعلة، كما أن الحسابات الاقتصادية والجيوسياسية تكتسب أهمية لافتة في تحديد أولويات الملفات الأكثر إلحاحاًً والأكثر حاجة للمعالجة على الصعيد الدولي، حيث يفرض الموقع الجغرافي والقدرة الاقتصادية للدولة توافقات تحرص على تكريس توازنات مُعينة على صعيد العلاقات الدولية.
وتعد الأزمة الليبية المتصاعدة والمتشابكة منذ العام 2011 نموذجاً حياً لصراع النفود، وتعدد الأقطاب المتداخلة التي صعدت المواجهة على الأرض في أحيان ودعمت جهود التهدئة في أحيان أخرى، دون أن يكون للفاعل المحلي قدرة على حسم الصراع والتوصل إلى صيغ تفاهمات تنهي الصراع، لتأثره ووقوعه في دائرة النفوذ المتعاظم للقوى الخارجية التي تتضارب مصالحها.
ومع تطورات الأزمة الليبية التي شهدت العام الماضي بوادر توافق سياسي يُفضي لإجراء انتخابات بحلول 24 من ديسمبر المنصرم، كنتيجة مباشرة لضغوط قادتها البعثة الأممية، وتماشياً مع حالة التململ الداخلي في الشارع الليبي الذي بات يُحمّل الأطراف السياسية مسؤولية الانسداد السياسي وينظر بعدائية للتدخلات الخارجية بعد سنوات من الاقتتال الذي دفع المدنيون ضريبة ثقيلة له، تعثرت الانتخابات وانطلقت سهام الانتقاد وسياقات الاصطفاف والتهم المتبادلة لترسم واقعاً مغايراً عنوانه توافق “ليبي ليبي” لإنهاء الأزمة.
توافق قاد لتشكيل حكومة جديدة يرأسها فتحي باشاغا وخارطة طريق مفتوحة غير محددة المعالم، ظاهرها توافق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة وباطنها تشكيل وزاري بمهام لا تبدو مؤقتة، تسعى لإيجاد صيغة حكم تتقاسم فيها الأطراف النافذة السلطة وتعيد فيها الأجسام الحالية إنتاج ذاتها مع وعد بالتوافق على قاعدة دستورية أو تعديل مقترح على بنود مسودة الدستور المحالة من الهيئة التأسيسية، خطة اعتمدها مجلس النواب اكتمل مشهدها مع أداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية وانتظار الاعتراف الدولي ومساحات العمل الداخلي.
اعتراف دولي منشود لن يحدث إلا بتوافقات ذات مسارين أحدهما دولي ويتمثل في الدول الغربية الفاعلة في الملف الليبي والتي دأبت على صياغة مواقف مشتركة تصدرها المجموعة الخماسية 2+3، والآخر إقليمي ويتمثل في المحور التركي المصري الذي شهد مؤخراً تقارباً ينهي حالة من القطبية في معالجة ملفات المنطقة وعلى رأسها الملف الليبي، إلا أن الفاعل الإقليمي لا تمتلك مواقفه قوة إلا بمقدار توافقها مع المسارات التي ترسمها الدول الغربية.
معادلة ظهرت جليةً في التعامل مع حكومة باشاغا التي حظيت بدعم مصري مباشر وواضح، بالتزامن مع موقف تركي غير معارض، إلا أنه أحجم عن الدعم العلني في ترقب لردات الفعل المحلية للحلفاء على الأرض في المنطقة الغربية وموقف الدول الخمس الذي جاء داعماً للمسار الأممي ولمقترح المستشارة ستيفاني وليامز، التي طرحت مبادرة دعت فيها لتشكيل لجنة مشتركة بين مجلسي النواب والدولة للتوافق على الإطار الدستوري لإجراء الانتخابات التي تحترم رغبات نحو 2.8 مليون ناخب ليبي.
موقف حسمته الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد الليبي التي ركزت على إجراء الاستحقاق الانتخابي بعيداً عن شعار التوافق “الليبي الليبي”، الذي رفعه البرلمان مؤخراً ليصار إلى دعم هذا التوجه وفق الإطار الأممي، أيْ أن التوافق المحلي يجب أن يكون تحت مظلة البعثة الأممية، مما يعني ضمنياً تحييد التعديل الدستوري 12 الذي يُمثل ركيزة لتحركات مجلس النواب الأخيرة.
ولكن التساؤل يثار هنا عن الأسباب التي دعت الدول الغربية لتجاهل خطوات مجلس النواب؟
عودة للظرفية التاريخية وفي قراءة سريعة للمواقف الدولية الداعمة لحكومة باشاغا، يتكشف الموقف الروسي الذي سارع لمباركة الحكومة الجديدة في ردة فعل على ما يبدو لاصطفاف حكومة الوحدة في الاتجاه الدولي المعادي والرافض للتحرك الروسي في أوكرانيا، وحديث الممثل الليبي في الأمم المتحدة عن وجود مرتزقة الفاغنر في ليبيا، كإشارة للسياسة الروسية المزعزعة للاستقرار والمغذية للصراع في بؤر التوتر.
موقف حُسب لحكومة الدبيبة وإن كان تأثيره على صعيد العلاقات الدولية غير محسوس، إلا أنه رتب خارطة الاصطفاف في ليبيا وهو موقف حاول باشاغا تداركه بتغريدة أدان فيها الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتضامن فيها مع الضحايا والمدنيين المهددين بالصراع، إلا أن وقع المباركة الروسية وصداها أكثر حضوراً في الدوائر السياسية الغربية من تغريدة باشاغا.
حسابات دولية تزداد حساسية مع توسع دائرة صراع النفود والمخاوف الأمريكية المعلنة من تمدد روسيا في منطقة حوض البحر المتوسط بمحاذات الشواطئ الجنوبية لأوروبا، واتخاذها من الأراضي الليبي منطلقاً لأدوار تنافس النفوذ الغربي في دول الساحل الأفريقي، خصوصاً في ظل تحالف دولي معادي لروسيا الذي اتخذ الصراع معها منحى اقتصادياً وعسكرياً يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الحرب الباردة.