مقالات مختارة

الليبيون الإخوة الأعداء: محاولة أولية للفهم

أبو القاسم قزيط

1-ثورة وثورة مضادة: وهم النقاء الثوري وزيغ المشروع الوطني.

هناك مقاربات مختلفة حد التناقض لتفسير الحالة الليبية (خاصة بعد 2014) ومنها مقاربة الثورة والثورة المضادة، مؤشر مهم إلى ضعف البرهنة لدى أنصار هذه الفرضية على قدرة هذه النظرية على تفسير الحالة الليبية في كافة تنوعاتها دون أن يكون تفسيرها تبسيطي ومختزل، ولابد من أن نشير إلى أن الكثير من الحارثين في حقل السياسة يعتبر أن الثورة المضادة هي طور أساسي من صيرورة أي ثورة.

إن القول بأن الثورة المضادة هي التفسير الوحيد لحالة الصراع في ليبيا أمر له محاذير جمّة، ثم أنه من المُسلّم به في العلوم الإنسانية أن السببية الطولية التي تنسب نتيجة معينة لسبب واحد، هي سببية متهافتة؛ لأنها تناقض طبيعة الظاهرة الإنسانية المنجدلة المتفاعلة، صحيح أن السببية الطولية مرغوبة ومحترمة في العلوم الصرفة، لكن الأمر ليس كذلك في العلوم الاجتماعية.

يعتقد البعض أن إرجاع ظاهرة بالغة التعقيد -هي الثورة وأطوارها وموجاتها الارتدادية- إلى تفسير اختزالي مسيس، هو سوء طوية بالتعبير السارتري، إن إرجاع زلازل الثورة موجاهاتها الارتدادية إلى سبب واحد اختزالي وهو وجود قوة فاعلة مضادة للثورة نسمي الثورة المضادة، هو أمر مسرف في التسطيح والتبسيط.

يجادل البعض أن كل ثورة تحمل في أحشائها بذور الثورة المضادة، سواء كانت الثورة من النظام القديم وما يقوم عليه من مصالح أو تحالفات راسخة أو حتى بين أنصار الثورة أنفسهم، فالعبرة التاريخية تقول: إن أغلب الثوار هم يستلهمون مصالحهم ومصالح جماعاتهم ولا يتماهى مع القيم الحقيقة للثورة إلا قلة قليلة من الثوار، في الغالب هم لا يمثلون الكتلة الحرجة اللازمة لإحداث التغيير دون أنصار هم أقل ولاء لمبادئ الثورة أو هم لا يأبهون بها مطلقا.

بعبع الثورة المضادة جاء بعد زلزال مصر الكبير عام 2013، وتبنّت معظم تيارات الإسلام السياسي فرضية الثورة المضادة، المفارقة الحقيقة أن قطاعا واسعا من التنويريين يعتبر أن وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، هو نكوص وحرق المراحل للخلف بل إن البعض مثل المفكر الكبير “جلبير الأشقر” في كتابه (انتكاسة الانتفاضة العربية) يرى أن وصول تيارات الإسلام السياسي هو عين الثورة المضادة، لأن أي ثورة لا يصحبها تنوير لا يتحدث فيها فيورباخ واسبينوزا ويسمع فيها لكانط وهيجل، لا يستلهم فيها فولتير وسارتر، هي ثورة فاقدة للبصيرة، وهي سرقة لحلم الناس في الحرية، كما حدث في ذات ربيع 1979.

بل إن فظاعة الثورة المضادة هي بمثابة حرق الجسور الموصلة إلى السلطة، فمن يمسك بتلابيب السلطة سيعتبر أي محاولة للإطاحة هي خيانة مرفوعة الرأس، وهي إما أن تكون ثورة مضادة أو انقلابا حتى لو كانت عبر الصناديق.

2- صراع على السلطة:

لا شك أن الصراع على السلطة هو أزمة كبيرة تعاني منها كل الشعوب، لكن الشعوب المتحضرة نقلت الأمر بفعل الإرث الديمقراطي إلى الحقل الرمزي، لكن الصراع على السلطة عندنا بدا هكذا سافرا دون رتوش ودون تجميل، واستدعاء كل الميراث البشع للاصطفافات والصراعات، ما يجعل من رغبة الفرقة المتصارعة على السلطة لا تحتمل التسويف والتأجيل، هو أن هذه الفرق لا تؤمن مطلقا بالديمقراطية وتعتقد في قرارة نفسها أن من يحكم أولا يحكم دائما.

3- هويات قاتلة: مناظير مختلفة للصراع

الإسلاميون والعلمانيون والعسكر: الهويات التحت وطنية عادة ما تكون مهمازا للصراع، في ليبيا بدأ الصراع بين تيارات الإسلام السياسي والتيارات التي عبّرت عن نفسها كونها تيار مدني، وبعد صراع مرير بينهم في المؤتمر الوطني العام وأضاعوا فرصة ثمينة للتفاهم وبناء الدولة, وبعد هزيمة التيار المدني الهش وغير المنظم, ظهر تيار القوى المسلحة أو العسكريتاريا، وكسب شعبية واسعة في البداية، لأنه حارب الإرهاب، لكنه في كثير من الحالات وضع كل الطيف الإسلام بكل تنوعه في مرمى نيرانه فضلا عن أنه كثيرا ما سخِر من السياسين وهدد بتقويض مؤسساتهم.

هناك تصنيف شائع لهذه المشاريع، يقول إن تيار الإسلام السياسي بدأ قويا وصار ضعيفا، وتيار عسكرة الدولة بدأ ضعيفا وصار قويا، والتيار الوطني المدني بدأ ضعيفا ومازال ضعيفا رغم أن الجميع يتفق تقريبا بأنه الأعرض والأكثر قبولا في الشارع، لكنه ضعيف لأن الدول التي تعبث بالملف الليبي وما أكثرها لا يمكن أن تدعم تيارا يحظى بقاعدة شعبية واسعة، لأن هذا الدعم سيحرره من الارتهان إلى الدعم، والضغوط الخارجية.

القبائل الشريفة والشطيين: مقاربة أخرى لتفسير حالة الصراع وهو محاولة إحياء فكرة الصفوف أو الأحلاف والمحاور التي كانت موجودة في العهد العثماني، أيضا البعض موقع الصراع بأنه صراع بين البادية والحضر، وهذا التفسير وجد تربة خصبة في الأربعين سنة الماضية، التي كثيرا ما امتدحت البادية وقدحت في المدينة مجدت الخيمة وهجت القصر.

في ذات السياق حاول البعض خلق ثنائية أخرى وهي القبائل الشريفة بمعنى الأصيلة، وذات النسب العربي، والشطيين الذين يتهمهم خصومهم بأنهم غير أصلاء في البلاد، وهم قدموا من البحر المفتوح على أمم الأرض قاطبة.

4 – الأقاليم الثلاثة في ليبيا (الجغرافيا قدر الشعوب):

الجغرافيا فرضت في زمن من الأزمان وجود الأقاليم التاريخية الثلاثة؛ وللأسف لم نستفد من التكنولوجيا لجسر الهوة التي تصنعها الجغرافيا فلا سكة حديد تربط الأقاليم الثلاث ولا حركة منتظمة للطيران، ولم تعمل الحكومات المتعاقبة بشكل فعال من أجل الدمج الوطني، وعندما أصبح بعد انقلاب سبتمبر العاصمة الأول.

طرابلس والثانية سرت والقذافي ابن سرت الحاكم المطلق البلد شعر أهل الشرق أن هذا التغيير سرق منهم الكثير لصالح الإقليم الغربي تحديدا، فتجذر عبر الزمن الإحساس بالتهميش، وبدا في كثير من الأحيان الصراع يظهر كما لو أنه صراع أقاليم.

5- صراع الموارد والدولة الربعية؛ طرابلس كلمة السر:

المورد الأهم في ليبيا هو النفط، ومما أجج الصراع حول الموارد هو الإحساس بالغبن لدى الشطر الشرقي من البلد لأن أغلب إنتاح النفط يقع تقريبا في إقليم برقة، ولكنه يحس أنه لا يستفيد من هذه الثرورة لأن توزيعها لم يكن عادلا في يوم من الأيام .. آبار النفط التي في الهروج أو السرير أو زلطن تصب ثروتها في طريق السكة لدى المؤسسة الوطنية للنفط، التي بدورها تنقله قرب السرايا للمصرف المركزي .. فإذا لم تكن حكومة العاطمة طرابلس عادلة في توزيع الثروة الوطنية فإن الصراع سيندلع حتما وستكون العاصمة ساحة المعركة خاتمة بعيدة الاحتمال للتناقضات في هذه الصراعات وفي نظرية الصراع. إجمالا كل طرف يحتاج عدوا حتى يحافظ على تماسك جماعته، يبدو المشروع الوطني تائه ولا يجد الروافع السياسية التي تستطيع تجسيد حلم الدولة، دولة قطارها على السكة يتحرك يتقدم مثل كافة شعوب الأرض، المشروع الوطني وجد روافعه السياسية قبل سبعة عقود في الأمير إدريس السنوسي ورفاقه، وبشير السعداوي وصحبه .. أما اليوم فلا وجود إلا للجراد السياسي الذي يأكل الأخضر واليابس.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى