الكتابة والبيروقراطية
عمر أبو القاسم الككلي
مثل أي مستحدث يغير من العادات والتقاليد الاجتماعية، وحتى القيم، لاقت الكتابة أول ظهورها معارضة كبيرة على اعتقاد أنها تهدد الاهتمام بالأخلاق والحقيقة. وأفلاطون ذاته، الذي خبر فائدة الكتابة في تحصيله المعرفي من كتابات الذين سبقوه، وخدماتها في بث كتاباته وتأليفه هو شخصيا، يهاجم الكتابة في إحدى محاوراته. ويلجأ في ذلك إلى أسطورة مصرية مفادها أن الإله توت (= تحوت) مخترع الكتابة، حبا الفرعون تحتمس (=تحتومس) باختراعه هذا، إلا أن الفرعون، بعد أن وازن بين فضائل الكتابة وشرورها، رأى أن وضع الإنسان بدون معرفة الكتابة أفضل من وضعه بمعرفتها. وعليه رفض استلام هذه النعمة، معتبرا (حسب أفلاطون) الكتابة هبة خطيرة، لأنها تستبدل مجرد خطوط – أي علامات غريبة واعتباطية وعديمة الحياة- بلغة منطوقة ذات حضور مباشر موثوق، وصلة حية بين متكلم ومستمع. وبالاعتماد على “الذاكرة” المكتوبة ستضمر قوى ذاكرة الإنسان الحقيقية سريعا*.
وإذا غادرنا البعد الأسطوري إلى الواقع العياني، فإن اعتراضات الفرعون المصري في غاية الوجاهة في حد ذاتها. لكن ما لم يكن هذا الفرعون يدركه، هو أن الجانب التغييري خصيصة من خصائص المستحدثات والمخترعات كافة، لأنها تستهدف إحداث تغيير، بسيط أو عميق، في جانب من جوانب الحياة الاجتماعية، وإلا لم يكن ثمة من داع لاجتراحها. فأي مستحدث أو اختراع هو ثوري بطبيعته ويحدث ثورة ملموسة ولو في مجال ضيق محدود (اختراع عود الثقاب، مثلا). ومن ناحية أخرى فإن أية ثورة تواجه، على الأقل في البداية، معارضين أشداء متضافرين.
ارتبط اختراع الكتابة بظهور الدولة، حيث احتاجت، مع توسع رقعة سيطرتها ونمو اقتصادها وتزايد رعاياها، إلى مؤسسات مختصة تتولى شؤونها والشؤون العامة، من مثل إحصاء الجنود، وتسجيل الضرائب وعوائد الفتوحات والرواتب… إلخ. فالكاتبة نشأت، يمكن القول، في أحضان السلطة والحكم**. وبذا مثلت أداة من أدوات الحكم وإدارة الدولة، وعلى الجملة: وسيلة من وسائل الإخضاع من خلال كتابة الأوامر وصياغة القوانين. من هنا نشأت شريحة متميزة في المجتمع، هي تلك الشريحة التي يمتلك أفرادها القدرة على الكتابة والقراءة، وأصبحت الكتابة حرفة تعتمد عليها معيشة هؤلاء الأفراد، وليست شيئا يوفر لهم القدرة على القراءة والاستمتاع بالتحصيل المعرفي فقط. فملأ هؤلاء دواوين الدولة.
من هنا نشأ ما صار يعرف لاحقا بـ “البيروقراطية” التي تدير شؤون الدولة والمجتمع. ولكنها مثلت، إلى هذا الحد أو ذاك، كيانا متماسكا غامضا، شبيها بآلة جبارة متعددة الأجزاء والحلقات والتروس، بحيث صارت تعطل سلاسة الحياة الاجتماعية وتعرقل مصالح المواطن، بدلا من العكس.
* Christopher Norris, Derrida, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts, 1987
وانظر أيضا: عمر أبو القاسم الككلي، السماع بالعين.
** لاحقا أصبحت أداة من أدوات السيطرة في خدمة السلطة الدينية، سواء مستقلة أو في ارتباطها بسلطة الدولة.