“القرواطة” بين الخنق والشنق
فرج عبدالسلام
أثار قيامُ مواطنين غاضبين من كوسُوفو بتعليق ربطات عنقٍ على سور رئاسة حكومتهم، في نفسي مشاعر شتى. فالكوسفيون قاموا بفعلتهم الرمزية تلك احتجاجا على تصريحات رئيس وزرائهم لتبرير مضاعفة راتبه من 1500 يورو إلى 3000 في بلد يطحن فيه غلاءُ المعيشة والبطالة وسوءُ تدبير الحاكمين غالبية الطبقات، عدا المرفهة منها طبعا. وفي الوقت الذي لم يشعر المسؤول الكوسوفي بأي خجل في الدفاع عن قراره بقوله نصّاً: “أنا مضطر لارتداء ربطة عنق. لا يمكنني أن أخرج مرتديا أي شيء. يجب أن يكون لدي قميص”. يعلمُ خادم الشعب هذا أن متوسط الراتب التقاعدي للمواطن الكوسوفي العادي في حدود 100 يورو، وهو مبلغ لا يسمن ولا يُغني من جوع كما نقول في أدبياتنا، و قد يكون ثمن جلسة عادية في مقهى في أي مكان في أوروبا، وكوسوفو طبعا دولة أوروبية.
على الفور استدعت ذاكرتي لقاءً لمسؤول ليبي بالغ الرفعة، يشغل موقعا بالغ الخطورة وسيكون لأفعاله وأقواله أثر بالغٌ على مستقبل أجيال من الليبيين، قال خلاله الشهير دون أن يرفّ له جفن، ردّا على سؤال حول مرتبات نوّاب الشعب المبالغ فيها مقارنة برواتب عامة الناس الهزيلة وما تمر به البلاد من أزمة طاحنة “إن مبلغ ستة عشر ألف دينار التي يقبضها النواب لا تعني شيئا!” وعرف الناسُ حينها أنه يتحدث عن انهيار سعر صرف الدينار مقابل الدولار وبالتالي ما عاد هذا المبلغ السمين يقضي حاجات كثيرة لخدّام الشعب، كما تيقّن الناس أن مسؤولهم الرفيع في وادٍ وهم في آخر وأن كل همّ نوابهم الذين انتخبوهم ليس سوى اقناص الفرص الظالمة والدفاع عن مصالحهم هم، وأنّ وجودهم في السلطة وتمسّكهم بها، فرصةٌ لا تُعوّض للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أموال الدولة بحجة أو بأخرى. والحصيلة أنّ لسانَ حالهم وأفعالهم يقول فليذهب عامة الشعب الذين لا يحصلون على 500 دينار شهريا إلاّ بشق الأنفس إلى الجحيم، أو شيئا من هذا القبيل..
وعودة إلى رمزية ربطة العنق أو “القرواطة” فهي لدي أغلب شعوب العالم دلالة على السموّ ورفعة المقام، وتجلب الاحترام والتقدير لمن يرتديها، باستثناء إيران التي حرّمها مُرشدها الأعلى على الجميع تحريما قاطعا مُلزما لمن اقتنع وغيرهم ممن لم يفعل. وعن نفسي، فقد اكتشفتُ سحرها منذ زمن طويل، وعندما كنت أضطر لقضاء مصلحةٍ ما لدي الدوائر الحكومية أو غيرها، أحرصُ على ارتداء القرواطة، فألقى ترحيبا عظيما في عيونهم يُخجلني أحيانا، لكنّ الأهم أنهم يترجمونه إلى أفعال وتسهيلِ إجراءات، لا ينالها غيري من المساكين الذين شاء سوء طالعهم ألاّ يتوصلوا إلى اكتشافي المفيد والعظيم.. بل وأحيانا يصرّ الكثيرون على منحي لقب “دكتور” وبالأخص بعد أن كشّرت “صلعتي” عن أنيابها.
لكن أيضا فالقرواطة في بلدي لا تتمتعُ بسيرة حسنة، فقد جُوبه هذا الاختراعُ الغريب بحربٍ ضروس من قبل إعلام النظام الحماهيري المنقضي الذي لم يكن بديعا ولا هم يحزنون، حيثُ رُبطت بالغرب الاستعماري، وبتفسير قاصرٍ رُبطت أيضا بدلالة الصليب المسيحي، واعتُبرت رمزا للسطوة والرجعية والفساد، ولعلّ في الإعلان التلفزيوني المضحك آنذاك ما يشرح هذا، إذ تقول كلماته: “خانق روحه بالقرواطة، ناسي مصدرها بعباطة!” وما دمنا نتحدث عن “الخنق” فقد شاع بين عدد من الليبيين تعبيرٌ رهيب له دلالةٌ عظمى على مأسوية حالهم في ظل الاستبداد.. وخلال أحداث الثامن من مايو 84 التي اصطلح الثورجيون على تسميتها بأحداث “الكلاب الضالة” وما تبعها من هسترة النظام وقيامه بإعدامات علنية ضد معارضيه وعرضها في التلفزيون، كان البعض يتساءلون يوميّا بنبرة ساخرة تعبّر عن الاستسلام لجلاديهم: “زعمه فيه اتقرويط الليلة؟”
إنها مفارقة رمزية “القرواطة” لدى الشعوب المختلفة، ففي حين رآها المقموعون تمثل خنقا لآمالهم ومعيشتهم، إلاّ أن محنتها في ليبيا تخطت هذا المفهوم بصورة لا تخلو من الدراما !