القذافي حي
طه البوسيفي
حدثني أصدقائي كذا مرةٍ عن أشخاصٍ ما يزالون يعتقدون جازمين أن الموت لم يغيب معمر القذافي وأنه ما يزال حياً يستنشق العليل ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كنت حين أسمع هذا الكلام أستذكر ما كنت قرأته عن سيرة النبي عليه السلام وتحديداً يوم موته حين استلَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه السيف متوعداً بالويل لمن يقول إن محمداً قد مات، التمستُ العذر لهم وقلتُ لعلها صدمة البدايات _مع أن القذافي مات من سنوات_وما هي إلا أضغاث أوهام زينتها لهم صورة مزيفة رسموها للقائد الذي هو بأعينهم لا تأكله النار ولا تبتلعه البحار، مقاربةُ هذه المنزلة التي هم أنزلوها للقذافي قريبةٌ مما روته الأخبار عن حب الزير لكليب، أنكر ضحك واستهزأ وقال من ضمن ما قاله: (كليب كله يموت!)
تكررت هذه الحادثة معي حين جمعتني الصدفة بصديقٍ لم التقِ به منذ سنوات، تبادلنا أطراف الحديث عن الوضع العام بسطحية وسذاجة متناغمتين تطلَّبتها ضرورة الموقف، إلى أن جاءت سيرة القذافي، تحدثنا عنه هو الآخر ما شاء لنا أن نتحدث، فختم صديقي كلامه بجملة ما يزال لها صدى ورنين في أذني إلى اليوم (الله يرحمه لو كان مات) .
لو كان مات !!!!
صدمت حينها أكثر من أي وقت كان فيه أصدقائي يحكون لي عن أشخاص لا يصدقون موت معمر القذافي وينكرون كل ما هو متعلقٌ بمقتله، لم أسأله عن القصدية من وراء هذه الجملة ولم أخلق معه جدلاً سيكون حتماً عميق العقم، هل يعقل أن صديقي الشاب الحداثي المؤمن بسنة الموت ينكر موت القذافي الذي شهد عليه الشهود في كل أصقاع المعمورة؟ وهل الموت قضية تحتمل الإنكار؟ كنت وما زلت أعتقد راسخ العقيدة أن الإجماع على حتمية الموت وصيروريته أكثر من الإجماع على مسألة وجودية قد تحتمل رأياً مغايراً لما عليه الأغلبية (كحقيقة وجود الله من عدمها مثلاً).
في اعتقادي، أن هؤلاء الذين يزعمون بأن معمر القذافي لم يمت، وأنه سيعود، يعيشون في المرحلة الأولى من مراحل الاعتراف بفقدان الأحبة وما يزالون يدافعون بكل جوارحهم الحسية والمادية عن هذه الفكرة التي غاصوا بها واستساغوها إلى أن أصبحت سلوكاً مطبوعاً في شخصيتهم تنطق به ألسنتهم بوعي وغير وعي.
إنكار الموت مرضٌ نفسي، وهو مرحلة من مراحل الصدمة، يبدأ إنكارها بحالة من الهوس وفقدان الوعي، ثم تصبح حالة من الاعتراف الجزئي الممزوج بفتور الذهن وصولاً لحالة اليقين المر بفقدان العزيز والتسليم بأن عودته من جديد إلى الحياة محالٌ محال.
الحزن الشديد على مقتله قد أشعرهم ربما بالاضطراب والضبابية ولم يمكنهم من رؤية ما بعد هذا الخبر، ساهم في ذلك للأسف في فترة من الفتراتِ ضخٌ متواصل من بعض الأبواق الذين لعبوا على حالة الإنكار للتقليل من قيمة الحدث أو المصاب الذي نزل كصاعقةٍ على رؤوسهم.
معمر مات ومن مات لا يعود حياً.