العقاب: أين جثّة الكيخيا؟ أين جثّة القذافي؟
سالم العوكلي
أين الجثة؟ سؤال يدور كثيرا في منطقتنا المكتظّة بالأسئلة العصيّة على الإجابة. وأداة الاستفهام (أين) أكثر الأدوات استخداما في مجتمعاتنا الزاخرة بعفاريت وأشباح السلطات المذعورة. وفي مثلث برمودا الممتد من المحيط إلى الخليج، ويبدو أنّ السؤال أين فلان؟ أو أين جثة فلان؟ سيستمر لوقت غير منظور، طالما مرسوم (الليل والضباب)، الذي ابتكره هتلر، مازال ساريَ المفعول في أقبية المخابرات العربية.
دار هذا السؤال في ليبيا طيلة عقود النظام السابق، واستعر في عقد التسعينيات مع خطف وإخفاء المعارضين: منصور الكيخيا، عزات المقريف، وجاب الله مطر، والد الروائي الليبي هشام مطر، الذي أصدر ثلاث روايات باللغة الإنجليزية؛ (في أرض الرجال ـ تشريح الاختفاء ـ العودة)، تتقصى عبر إعادة تركيب روائي لسيرة ذاتية، تلك المراحل المؤلمة التي عاش فيها، طفلا وصبياً وشابا، كابوس اختفاء أقرب الناس إليه في وطن الليل والضباب الذي شيّده القذافي، مؤسّس جريدة (الشمس).
عن اختفاء المناضل الحقوقي منصور الكيخيا، يذكر الأستاذ محمد مخلوف في موقع “ليبيا وطننا” بتاريخ 17 ديسمبر 2010 ، أنّه “في اليوم الأول من شهر ديسمبر عام 1993 دُعيت إلى القاهرة لحضور “مؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان”، بصفتي عضواً في اللجنة التنفيذية بفرعها في بريطانيا، حضره الأستاذ منصور أحد المؤسسين للمنظمة وأبرز شخصياتها. وفي القاهرة، وخِلال جلساتنا اليومية، ذكر لي الأستاذ منصور أنه تمّ الاتصال به من قبل ابن عم الدكتاتور: أحمد قذّاف الدم، بغية الالتقاء و”الحوار” معه في مدينة جربة التونسية، ثم أخبرني بعدها بعدّة أيام أنّ قذاف الدم في القاهرة، ويطلبُ الالتقاء به، وفي كل مرّة كنتُ أحذّرهُ من مغبّة اللقاء بهؤلاء المجرمين، وأدعوه للاحتراس من كيدهم وشرّهم.. وبعد عودتي إلى لندن بعدّة أيام، جاءني خبر اختطافه الفاجع يوم ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكان هذا الخبر نقطة مُهمّة في حياتي، لأتحول من الصحافة إلى السينما التسجيليّة، ولأنجز أوّل أفلامي: “اسمي بشر – اختطاف منصور الكيخيا” 1994، والذي تمّ تمويله من قِبل أحرار ليبيا، من داخل الوطن وخارجه.
أما موقع شبكة فلسطين للحوار، في 21 يوليو 2011 ، فيذكر أنّ المعارض السابق، فائز جبريل، يتهم في تصريح لجريدة الشروق، أحمد قذاف الدم، منسق العلاقات الليبية المصرية، وقت اختفاء الكيخيا ، قائلا إن «قذاف الدم يقف خلف اختفاء زعيم المعارضة الليبية، ووزير الخارجية السابق، منصور الكيخيا فى مصر عام 1993، إن «قذاف الدم، الذي يعرف كل أسرار القذافي، وراء عمليات خطف وتسليم المعارضين الليبيين فى عهد مبارك، وليس الكيخيا فقط»، داعيا «أسامة الباز إلى الإفصاح عما فى جعبته بشأن اختفاء الكيخيا؛ لأنه كان وكيل وزارة الخارجية المصرية آنذاك، ويعلم بما لا يدع مجالا للشك تفاصيل هذه الجريمة».
ويتذكر، جبريل، اليوم الذى اختفى فيه الكيخيا بقوله: «كانت تربطني به علاقة قرابة وصداقة، فهو أستاذي ومعلمي، وقبل اختفائه بساعات حضرنا أمسية في أحد فنادق القاهرة، ثم تناولنا العشاء بمنزل ابن شقيقته (زوج أختي)، ثم عاد إلى الفندق حيث يقيم، وفي صباح اليوم التالي تلقيت اتصالا هاتفيا من شقيقه مصطفى الذي وصل لتوه من ليبيا إلى القاهرة، ليبلغني أن منصور اختفى».
واستطرد قائلا: «تم استدعاؤنا من قبل النائب العام للتحقيق، وتابعت القضية مع المخابرات المصرية وجهاز أمن الدولة باعتباري كنت مسؤولا في الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا عن ملفات اختفاء المعارضين الليبيين في مصر، إلا أنني لم أتبين الخيط الأبيض من الأسود». وأشار جبريل، الذي يعيش في القاهرة منذ 20 عاما، إلى أن «حادثة اختفاء الكيخيا ليست الأولى ولا الأخيرة، ففي 1990 اختفى قياديان في جبهة إنقاذ ليبيا، هما جاب الله مطر وعزات المقريف، وأوضح أنه «حينما اختفى مطر والمقريف كان اللواء عبد السلام المحجوب مسؤولا عن ملف ليبيا في المخابرات المصرية، لذلك أنا أدعوه للإفصاح عن تفاصيل عمليات إخفاء المعارضين الليبيين».
وختم بقوله: «تلقيت رسالة بخط يد المقريف بعد اختفائه ما زلت أحتفظ بها، حكى فيها تفاصيل اختطافه وتسليمه للقذافي وذكر أسماء المسؤولين عن عمليات الاختطاف، واستنجد بنا لنمنع إعدام المعارضين، لكننا لم نستطع نجدتهم رغم أننا أبلغنا المخابرات المصرية بمضمون الرسالة، وبعدها وقعت مذبحة سجن بو سليم، فتأكدنا أن جميع المعارضين الذين سلمتهم مصر للقذافي تمّت تصفيتهم».
في ديسمبر 2012 ، وبعد 19 عاما من اختفاء منصور الكيخيا، صرّح شقيقه، محمود الكيخيا، لوكالة الصحافة الفرنسية “عثرنا على جثة شقيقي منصور الذي تم اختطافه من العاصمة المصرية القاهرة في العام 1993 على أيدي أجهزة نظام القذافي، في ثلاجة بفيلا تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية في العهد السابق بطرابلس قبل حوالي شهر ونصف”.
المفارقة أن يحتفظ القذافي بجثة منصور كل هذه الفترة، حتى يؤبّن في العاصمة طرابلس التي هرب منها القذافي قبل عام تقريبا، وتشيع جنازته وسط حشد كبير في مدينة بنغازي ليدفن مع أسرته، وفي الوقت نفسه تختفي جثّة القذافي بعد أن تعفّنت وسط دوائر من المتشفّين دون أن يعرف له قبر، وكأنّ جثّة المناضل تنتقم من جثة المستبد.
يرجع اختراع “الإخفاء القسري” إلى مرسوم أطلقه أدولف هتلر، في 7 ديسمبر 1941، تحت اسم “الليل والضباب” يقضي بإخفاء المغضوب عليهم من معارضيه أو ناقديه في برزخ ليلي ابتلع بضبابه الآلاف من الضحايا الذين لم يُعثر على جثثهم، إلا بعد انتحار هتلر، واختفاء جثته حتى يومنا هذا.
كان المشير، الألماني فيلهلم كايتل، أول فرد أدانته محكمة دولية لارتكابه جريمة الإخفاء القسري فيما يتعلق بدوره في تنفيذ “مرسوم الليل والضباب” الذي أصدره أدولف هتلر، وقد فسر المارشال كايتل، القائد الأعلى للقوات المسلحة الألمانية وقتها، هذا المرسوم بقوله: “سيختفي السجناء بلا أي أثر. وسيكون التوصل إلى أي معلومات عن أماكن وجودهم أو مصيرهم أمرًا مستحيلًا”. لكن رغم إعدام المارشال عام 1946م، لم يتوقف هذا المرسوم النازي عن سريان مفعوله في جيوب النازية المتبقية في العالم، وعالمنا العربي خصوصاً، ورغم صدور(الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري) التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 47/133 المؤرخ 18 كانون الأول/ديسمبر 1992، فما زالت هناك دول عديدة تتهرب من التوقيع والمصادقة عليها، حيث يبلغ عدد الدول الموقعة 95 دولة (لا تعتبر الاتفاقية نافذة في مواجهتها) من بينها دولتان فقط عربيتان، الجزائر ولبنان، في حين أن عدد الدول التي صادقت عليها 59 دولة فقط من أصل (197).، بينها العراق وتونس والمغرب. دون أن يمنع ذلك تفشي حالات الإخفاء القسري فيها، وفي هذا الوطن الممتد من ليل المحيط إلى خليج الضباب.