العصيدة.. بين النفور من “البدعة” و “التمسك بالهوية”
218TV|خاص
أحلام المهدي
يندلع كل عامٍ مع اقتراب الاحتفال بذكرى المولد النبوي ما اتفق البعض على وصفه بصراع “العصيدة” أو معركة العصيدة التي دخلتها أكلة الجدّات لتجد نفسها “بدعة” حينا، و”مكروها” حينا آخر دون أن يكون لها يدٌ في الأمر.
فما كان جزءا من الهوية الليبية صار يخضع مثل غيره لاعتبارات أخرى بعضها بعيد كل البعد عن بساطة وعفوية الليبيين في إظهار انتمائهم الديني بمنحه طابعا احتفاليا لا يبتعد به عن تلك الصور التي ما فتئت الجدّات يرسُمنها على جدران ذاكرتنا.
وقد كانت العصيدة دائما لغةً أخرى تحمل الكثير من المعاني في حياة الليبيين، فاقترنت بالشتاء بما تمنحه من دفء وهي ساخنة وطازجة مهما كانت فقيرة من مكوناتها الدسمة، وربطها الأطفال بالمطر أيضا في أهازيجهم التي كانت تتصاعد مع نزول أول مطر بعد انقضاء الصيف.
“المطر تصب وعشانا بالرب”، أو “يامطر صبّي صبّي….”.
أما دورها الأبرز في المطبخ الليبي فكان مساهمتها في الاحتفاء بـ”الميلود”، لتقترن بهذه الذكرى التي كان لها طعم خاص في ليبيا، قبل أن يضيق البعض الخناق على “رئة” الأعياد التي كان الليبيون يتنفسون الحياة من خلالها.
فأصبح إيقاد الشموع مظهرا وثنيا، وصارت العصيدة بدعة، ولازال البعض يحاول إصابة الهوية الليبية في مقتل، بربط أهل البلاد بتيارات بعيدة فكريا واجتماعيا، وجغرافيا أيضا، مع العلم أن هذه التيارات لازالت حتى الآن تتخبط لنجدها تتراجع بشكل مفاجئ وصادم عن بعض ثوابتها، لتضع أنصارها في كل مكان في مواجهة مع هويتهم الأصيلة وانتمائهم الحقيقي.
وللمفارقة، فإن العصيدة أصبحت رمزا للمقاومة، ووسيلة للتمسك بالانتماء إلى هذه الأرض، ليحرص على إعدادها حتى من لم يكن يُلقي لها بالا في البداية، فيبتعد بها عن العبث الإيديولوجي ويرتمي معها في حضن الخصوصية الليبية، محتفيا عن طريق إعدادها يوم “الميلود” بهويته الليبية.
فهي إحياءٌ لطقوس الجدّات اللاتي كُنّ يعددنها بحب في كل المناسبات السعيدة، عندما لم يعرف الليبيون “البدعة” رغم ارتباطهم الوثيق بالإسلام، وعندما كانت الجدات يزغردن في ذكرى المولد لاعتبارهن المناسبة فرحٌ لا يضاهيه فرح في عقولهن البسيطة، قبل أن يحاول البعض إخراسهن لأن أصواتهن مجرد “عورة”، وشقوق أيديهن التي لونتها “الحنّة” أيضا عورة، والخصلات البيضاء التي تغطي الجبين المجعّد أيضا كذلك.
عصيدة وشموع وقناديل وفرح، واقتناص للسعادة التي يطاردها الليبيون البسطاء في كل مكان، ومحافظة على أعيادنا التي يسعى البعض إلى تقليصها ما استطاع لذلك سبيلا، وارتماء في حضن الهوية الليبية، وإحياء لعادات جداتنا الليبيات، هذا هو “الميلود”، كان وسيظل رغم حملات التعاسة، والغزو الفكري والحضاري الذي يهاجمنا من عدة محاور.